نزار القريشي يكتب … التجربة الديمقراطية في المغرب

نزار القريشي يكتب … التجربة الديمقراطية في المغرب

إذا كانت الحياة السياسية في العالم العربي تتميز بحداثتها، من حيث بناء المؤسسات التمثيلية الحقيقية للشعب، رغم الركام النظري المحقق من قبل المفكرين العرب في هذا الميدان، فإن تجربة غرب الوطن العربي لا تشذ عن القاعدة، و هذا الغرب العربي تتمايز تجاربه و تختلف من بلد إلى آخر.حيث عمرت تجربة الحزب الواحد طويلا في دولة الجزائر، بينما كانت التعددية في المغرب أساسا دستوريا، و إن لم يخل الأمر من حدوث أشكال مختلفة من المضايقة، تكاد تقر جميع الأطراف السياسية التي اتخذت من العمل داخل المؤسسات سبيلا لها، تقر بأن شروط تلك المضايقات قد أصبحت متجاوزة.
كان التعثر هو مآل الخيار الديمقراطي في الجزائر عندما ألغيت الانتخابات، فغرقت الجزائر في دوامة العشرية السوداء، بعد انخراط “الإخوان المسلمين”، في أعمال إرهابية ضد الدولة.
أما الحالة المغربية فقد اكتسبت التجربة الديمقراطية فيها منحى أساسيا: سياسة خطوة خطوة.
عندما أعلن ظهير الحريات العامة في نهاية الخمسينات، و أكد مشروعية تأسيس الجمعيات، بما في ذلك ذات الطابع السياسي منها، وجاء الدستور بداية الستينات، تم الاعتراف للحزب السياسي بدوره في تأطير المواطنين،” وهذا ما حافظت عليه كل الدساتير، بما فيها الدستور الحالي” تم الإعلان عن الانتخابات التشريعية لسنة 1963، و التي جاءت بأول برلمان إلى المغرب. لكنه لم يعمر طويلا، إذ تم إلغاؤه بعد أحداث الدار البيضاء “مارس/آذار 1965” مباشرة، و إعلان حالة الاستثناء.

رغم أن هذه التجربة كان مصيرها الإلغاء، فقد أسست داخل الرأي العام فكرة قوامها أن مغربا بدون مؤسسات لا يمكن أن يكون مغربا طبيعيا، لا يمكن أن يكون دولة و لا شعبا، بل هو مغرب استثنائي. و هذا ما جعل مجموعة من الأحزاب السياسية تواصل مطالبتها بالانتخابات من أجل إفراز مؤسسة تمثل السلطة التشريعية بالبلاد.هذه المطالبة أثمرت انتخابات 1977 .

و بالنسبة لهذه الانتخابات، فإنها قد جاءت في سياق مختلف تماما، حيث من الناحية السياسية و الاقتصادية كانت انتخابات 1977 جرت في مغرب قد تجاوز عهد ما بعد الاستقلال بكثير.

من الناحية السياسية، كان قد تم ترسيم الأحزاب السياسية داخل المجتمع، بل و أصبحت أكثر تأطيرا في علاقتها بذاتها، و في علاقتها بالمواطنين الناخبين. وبالتالي، بات بإمكان المتتبع أن يضع كلا في خانته، بل و بإمكانه أن يقول: هذا اشتراكي، هذا سلفي…هذا ليبرالي..الخ.

وحتى الأحزاب السياسية التي ظل الكثيرون مراهنين على إمكان انقراضها ازداد وحضورها و وجودها السياسي رسوخا؛ كالحركة الشعبية التي قادها وزير البريد سابقا المحجوبي أحرضان، وغيرها من الأحزاب الصغيرة، التي استطاعت الحفاظ على بقائها.
لكن كل هذه الأحزاب لم تتسع لكل الذين كانت لديهم الرغبة في الوصول إلى المؤسسة التشريعية “البرلمان”. وهكذا، كان من بين المرشحين، من الذين فازوا بمقاعد مهمة ، أعضاء غير منتمين، كانوا يسمون بالأحرار، وهم الذين سيشكلون فيما بعد ” التجمع الوطني للأحرار”، الذي سيقوده أحمد عصمان.

أما من الناحية الاقتصادية، فقد كانت المغربة عنوانا للمرحلة، حيث كان يجري تحويل المؤسسات الاقتصادية، التي كانت متبقية في أيدي استعمارية، إلى الدولة المغربية.

وهذا ما جعل المؤسسة التشريعية “البرلمان” تكتسب أهميتها الكبرى، حيث أصبح من واجبها السهر على ملفات ذات طابع حاسم. إذ أنها صارت تتحكم في دواليب البنيات الاقتصادية المغربية.

إذا كان هناك من عنصر إضافي في رسم ملامح هذه التجربة، وما ميزها عن التجربة السابقة، فهو يتمثل أساسا في استمرارية المؤسسة التشريعية رغم الأحداث العاصفة التي شهدتها البلاد، كأحداث يونيو/ حزيران التي كانت البيضاء المغربية مسرحا لها أولا. وثانيا، اكتسبت التعددية طابعها الجديد بميلاد حزب التجمع الوطني للأحرار سنة 1978. إذ ساهم في تأطير فئات عريضة ” ضمنها كل اللامنتمين في برلمان 1977″ والتي لم تجد لها من مكان في الأحزاب السياسية المرسم وجودها في مغرب ما بعد الاستقلال.

بعد تمديد عمر البرلمان، و تحويله من أربع سنوات إلى ست سنوات، داهمته نهاية سنة 1983، فأعلن تأجيل الانتخابات التشريعية إلى غاية 1984 .

سنة 1984 كان المشهد السياسي المغربي قد تخصب بميلاد إطارات سياسية أخرى، أبرزها منظمة العمل الديمقراطي”يسار” و الاتحاد الدستوري “ليبرالي”. و إذا كان أطر الحزب الأول قد انحدروا في أغلبيتهم من المنافي و المعتقلات، بقيادة أمينهم العام محمد بنسعيد آيت يدر المحكوم سابقا بعقوبة الإعدام، فإن الحزب الثاني قد ضم رجال حكومة سابقين أو رجال أعمال أو ملاكين كبارا من درجة ” المعطي بوعبيد رئيس الحزب و وزير عدل سابق و وزير أول سابق”.

طابع هذه التجربة و ميزتها هي أنها كانت أطول تجربة برلمانية في المغرب ” ثمان سنوات” بعد أن تم تمديدها باستفتاء شعبي، عندما أشرفت الست سنوات على مشارف نهايتها، و تجربة الثمان سنوات هذه لم تخل من حيوية سياسية، كان أبرز ما حدث فيها تقديم أحزاب المعارضة الممثلة في البرلمان ملتمس رقابة” حجب الثقة” يقر الدستور، إن صادق عليه البرلمان، أن يعاد تشكيل الحكومة. إلا أنه، و رغم النقاشات الصاخبة، فقد تم رفض الملتبس المذكور، بعد رجة سياسية أجمع المراقبون على أهميتها و إيجابيتها. إذ انشغل المغاربة بالشأن السياسي من خلال متابعة ما كان يجري يومها من نقاش تحت قبة البرلمان. كانوا يتابعون ذلك على شاشة التلفزة بشكل مباشر.

عندما جاء موعد الانتخابات التشريعية الموالية سنة 1995 ، كان المشهد السياسي المغربي قد تغير كثيرا. توحد حزب الاستقلال مع الاتحاد الاشتراكي في الحملة الانتخابية، و انضم إليهما حزب التقدم و الاشتراكية ” الشيوعي” و منظمة العمل الديمقراطي الشعبي لتشكيل رباعي ما سمي ب “الكتلة”.

أما حزب التجمع الوطني للأحرار فقد أظهر أمام الجميع أنه حزب متكامل مكتمل الذات، مصمم على البقاء داخل التربة السياسية المغربية، رغم أنه خالف آلية تشكيل الأحزاب في كثير من التجارب، حيث جاء قادته من السلطة إلى الشارع، ولم ينطلقوا من الشارع إلى السلطة، وأصبحوا يعلنون انتماءهم إلى الوسط.

و على المستوى الدستوري تم إقرار ضرورة أن تتشكل الحكومة من أغلبية.
سيعيش بعدها المغرب تحولا كان حاسما في تجربة الانتقال الديمقراطي في مسلسل ما عرف بالتناوب التوافقي، لذلك اهتم الرأي العام كثير اهتمام بحكومة “التناوب التوافقي” سنة 1997 ، اهتماما لم يوليه الرأي العام للحكومات السابقة، بحكم أنها الحكومات السابقة لم تكن تحمل عناصر الإثارة الكافية ، و لم تكن تتشكل في سياق متغيرات واضحة، بينما جاء الإعلان عن حكومة عبد الرحمان اليوسفي مثيرا بحكم نقل المعارضة إلى سدة الحكم، داخل توافق جماعي للأحزاب من أجل تشكيل حكومة قوية تتماشى و أفق التغيير الذي يشهده العالم.

علق الناس أمالا كثيرة على التناوب التوافقي، وانتظروا جديدا منه في مختلف المجالات، دون أن ينتبهوا إلى أنه توافق هجين بين فسيفساء متناقض المرجعيات متضارب المصالح. لكن هذا التناقض يصبح قابلا لأن يلتئم في حكومة واحدة إذا كان مجرد ائتلاف شكلي. ولذلك، لا يمكن أن يظهر إلا التناقض، لأنه يكون بسبب تضارب في القرارات التي تتخذها الأطراف المشكلة للحكومة بحكم اختلاف مرجعياتها و تمثلاتها في تدبير القطاعات التي تشرف عليها وزارة هذا الحزب أو ذاك.

فمع الإعلان عن الحكومة الجديد، سنجد أنفسنا أمام معادلة صعبة الحل، إذا ما اعتبرنا المتراجحة الأكثر تعقيدا هي ما يجمع حزب الاستقلال، الذي طالما اعتبر نفسه وريث السلفية و أمينا على تحقيق العدالة الاجتماعية، والاتحاد الاشتراكي أقدم المعارضين المنادين بتطبيق الاشتراكية، هذا الحزب الذي سيضحي بإطاره النقابي العتيد ” الكونفدرالية الديمقراطية للشغل” و رجالتها، ليعلن أصدقاء نوبير الأموي عن الانسحاب و تشكيل حزب المؤتمر الوطني الاتحادي؛ حزب سيظل يشتغل بمنطق نقابي متحكم في تكوين أعضائه، وهو ما يفسر فشل مشاركته في الانتخابات الأخيرة، بينما أصبح الاتحاد الاشتراكي في غنى عن القناة النقابية التي كانت صوته في زمن المعارضة.
ولكن حزب الاتحاد الاشتراكي سيتخلى أيضا عن القاعدة الشبيبية المتمثلة في أصدقاء الساسي الذين عارضوا مقررات المؤتمر السادس، و القبول بالدستور و التناوب. لكن اليوسفي أخبر محمد الساسي بأن أرض الله واسعة ، إذا أراد مغادرة الاتحاد، بينما يريد هو أن لا يمشي فوق الأرض، و إنما على زرابي القصر، مهما كانت التنازلات، ليقوم الساسي رفقة محمد حفيظ خلفه في رئاسة الشبيبة الاتحادية و السفياني و عدد من المنتسبين و خبراء الحزب الاقتصاديين بتأسيس “جمعية الوفاء للديمقراطية” التي خلفت الاتحاد الاشتراكي سابقا في موقع المعارضة داخل المشهد السياسي المغربي، ولكنها ستظل مرفوضة على مستوى الدولة ، لأن صيرورة التنمية و الازدهار داخل ربوع المملكة، باتت تفرض إخلاء الساحة السياسية من جبهة المعارضة و الرفض، وعيا بأن الاتحاد الدستوري لم و لن يكون معارضة في السياسة. دون الانتباه إلى أن السياسة مثل الطبيعة تأبى الفراغ، ولابد من وجود حكومة و معارضة سيشغل حيزها الحضور و المد القوي لحزب العدالة و التنمية، و الذي سيشكل فيما بعد الحكومة المغربية سنة 2011 برئاسة عبد الإله بنكيران، و بعده سعد الدين العثماني سنة 2017. غير أن سياسة هذا الحزب المحسوب على “الإخوان المسلمين” بالمغرب، لم تنل رضا العديد من المغاربة، وهو ما تأكد بعد ظهور نتائج انتخابات 2021، حيث مُني حزب العدالة و التنمية ذو المرجعية الإسلامية بهزيمة كبرى في الانتخابات البرلمانية
بعدما حصد 12 مقعدا فقط في مجلس النواب.

في السياق ذاته، يتبين لنا بعد هذا الجرد العام لسياسة الأحزاب المغربية، أن التفاف الشعب المغربي حول مؤسسته الملكية و ارتباطه الوثيق بها، هو الضامن الوحيد لأمن وسلامة البلد واستمرار نهضته، بعيدا عن الشعبوية و الحسابات السياسوية الضيقة، لأن مصلحة الوطن يجب أن تظل فوق أي اعتبار.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *