ناعورة كورونا
قبل أسابيع، فاجأتنا بؤرة “للاميمونة” بمنطقة الغرب، بعدما ضرب الوباء بقوة في بعض الوحدات الإنتاجية الخاصة بالفراولة، في يوم “كوروني” تجاوزت فيه الإصابات اليومية المؤكدة حاجز “الخمسمائة”، بعدما ألفنا – وقتها -أرقاما يومية “غير مثيرة للقلق” تقل في مجملها عن المائتي إصابة مؤكدة، مما رفع من منسوب الجدل والخوف والقلق، إلى حد ارتفعت فيه أصوات مطالبة بإجراء تحقيق للكشف عن حقيقة ما جرى، وبين الأمس واليوم، تغيرت أشياء كثيـرة، فقد تم اللجوء الاضطراري إلى خيار تخفيف الحجر الصحي لإعادة تحريك عجلة الحركة الاقتصادية وما يرتبط بها من رواج تجاري وانتعاش خدماتي، وإنقاذ القطاع “غير المشكل” من شبح الإفلاس، لما له من تأثيرات اجتماعية مباشرة على المعيش اليومي لشرائح واسعة من الأسر الفقيرة والمعوزة.
وإذا كان هاجس المحافظة على صحة الاقتصاد، قد تحكم في خيار تبني مخطط التخفيف، فقد كان من الضروري المحافظة موازاة مع ذلك، على الصحة العامة، عبر تنزيل حزمة من الإجراءات الوقائية والتدابير الاحترازية، تم التعويل في كسب رهاناتها، على الوعي الفردي والجماعي، بشكل يسمح بالتحكم الفعال في الوضعية الوبائية وما يرتبط بها من معدلات ومؤشرات، لكن بقدر ما كانت الرغبة جامحة في التصدي للخطر الوبائي، بقدر ما كانت ناعورة كورونا مصرة على الدوران، بعد أن هيأنا لها بتراخينا وعبثنا وتهورنا ”بيئـة دافئة”، باتت معها، أكثر قوة وأكثر فتكا وأكثر قدرة على إحداث القلق والتوجس والإرباك، في ظل تسجيل أرقام قياسية يومية “غير مسبوقة” تجاوزت حاجز الألف إصابة مؤكدة، والنتيجة الحتمية، ارتفاع صاروخي في عدد الإصابات المؤكدة والحالات النشطة والحالات الخطيرة والحرجة الراقدة في غرف الإنعاش وأقسام المستعجلات، وكذا ارتفاع الحصيلة اليومية للوفيات التي تجاوزت بدورها حاجز العشرين حالة، بعدما كانت لا تتعدى أربع حالات في أقصى تقدير، قبل الشروع في تنزيل السيناريوهات المرتبطة بمخطط التخفيف.
وعليه، وكلما استمرت ناعورة كورونا في الدوران السريع، كلما كانت التداعيات والتأثيرات كبيرة على المنظومة الصحية الوطنية، التي باتت في وضع حرج في ظل ارتفاع الأرقام المرتبطة بالإصابات المؤكدة واتساع نطاق الحالات الصعبة والحرجة على مستوى غرف الإنعاش وأقسام المستعجلات، مما يفرض مساءلة واقع هذه المنظومة الصحية ومدى قدرتها على تحمل الضربات القوية للجائحة الكورونية، سواء تعلق الأمر بالوسائل والمستلزمات الطبية وعدد الأسرة، أو بالأطقم الطبية والتمريضية المشتغلة أساسا بمختلف أقسام كوفيد-19، والتي لايمكن إلا تقدير حجم ما باتت تعيشه من مشاعر القلق والتوتر والتوجس والإرهاق، والتي تزداد تعقيدا في ظل ما بات يسجل من أرقام “مخيفة”، تطيل من زمن المعاناة وتزيد من عمر التضحية والصبر والقدرة على التحمل في أوساط جنود كورونا من الأطباء والممرضين، وكذا كل من فرضت عليه مهنته، التواجد في الجبهات الأمامية في حرب غامضة، الجميع يتمنى أن تضع أوزارها في أقرب الأوقات الممكنة.
ارتفاع مقلق في عدد الإصابات المؤكدة، قد يفسره البعض بارتفاع درجة حرارة التراخي في التقيد بما تم وضعه من إجراءات وقائية وتدابير احترازية، خاصة بعد الشروع التدريجي في تخفيف الحجر الصحي، وقد يفسره البعض الآخر، بموجة ثانية للفيروس التاجي اجتاحت مختلف بلدان العالم، في ظل الارتفاع المهول لعدد الإصابات المؤكدة وعدد الوفيات عبر العالم، وقد يفسره البعض الثالت، بما يحيط بهذا الفيروس العنيد من عناوين الغموض والإبهام، والذي لم يترك دولة إلا وأربكها ولم يدع قطاعا أو مؤسسة، إلا وبعثر أوراقها ولخبط خططها وسيناريوهاتها، وقد يفسره البعض الرابع بما أبان عنه العالم، من عجز وضعف ومحدودية، في تقديم الوصفة السحرية القادرة على استئصال شوكة الوباء وتخليص البشرية من شبح الارتباك والعناء.
ما هو مؤكد أن لا حل يلوح في الأفق في الوقت الراهن، حسب تقديرات المنظمة العالمية للصحة التي حذرت من احتمال ألا يكون هناك “حل سحري” للقضاء على فيروس كرونا، في وقت لازال فيه السباق مشتعلا بين المختبرات العالمية، في أفق التوصل إلى لقاح ناجع قد يأتي وقد لا يأتي، وعليه، وفي ظل هذا الواقع المبهم على المستوى العالمي، واعتبارا للأرقام المقلقة المسجلة على المستوى الوطني، من الصعب تبني أطروحة من ينادي بالعودة الاضطرارية إلى الإغلاق في ظل حجر صحي صارم، استحضارا لحجم ما تكبده الاقتصاد الوطني من خسائر وأضرار قبل الشروع في التخفيف، وقياسا للتداعيات المتوقعة لأي إغلاق محتمل على الأمن الاجتماعي، وقبل هذا وذاك، اعتبارا لخارطة الطريق التي وضعها الملك محمد السادس في خطاب العرش الأخير، لإنعاش الاقتصاد الوطني وإرساء منظومة ناجعة للحماية الاجتماعية بكل أبعادها ومستوياتها، كما يصعب في ذات الآن، التحكم في الوضعية الوبائية في ظل “التخفيف” الذي لامحيد عنه، وفي انتظار أن يتم الإنعام علينا باللقاح، نرى أن الحل يكمن في القبول بأطروحة “التعايش في ظل الوباء”، والرهان على قدر المستطاع على الوعي الفردي والجماعي، لمواجهة “فيروس” مزعج، يبدو أنه ألف العيش بين ظهرانينا، وليس أمامنا إلا أن نتحمل وجوده ونتحمل طقوسه وتكلفته المتعددة الزوايا.
“وعي” لايمكن بناؤه بقرار أو بتعليمات فجائية، ولايمكن تشكيله، بمجرد الرهان على خيار الزجر والعقاب، أو حتى بإلزام بعض المصابين الذين لاتظهر عليهم أعراض “كوفيد 19” بالبقاء في منازلهم والخضوع إلى سيناريو علاجي وفق شروط محددة، وبتعبير آخر، يصعب استئصال شوكة “عبث” متجذر في الأعماق في لمحة بصر، ويتعذر القطع مع ما يعتري الكثير منا من ممارسات العبث والتهور وانعدام المسؤولية والترامي على سلطة القانون، بمجرد إشهار سلاح الردع والزجر في وجه المتراخين والمخالفين، وبمفهوم المخالفة، كيف يمكن الرهان على من سرق كبش العيد للتقرب إلى الله، أو من سمن الأكباش بفضلات الدجاج، أو من اشتبه في وقوفه وراء سرقة معدات من داخل مستشفى ميداني دخله من أجل تلقي العلاج، أو من اخترق الحجر الصحي لتشييع جنازة في الشارع العام، أو من انتهك التدابير الوقائية والاحترازية للمشاركة في تظاهرة “بوجلود”، أو من اقترف جريمة القتل العمدي بمناسبة العيد، أو من شارك في ليلة الهروب الكبير دون اكتراث للتدابير الوقائية والاحترازية، أو من اصطف في طابور بسوق ممتاز للظفر بقنينة خمر، أو من يقسو على الوطن بتهوره وأنانيته وجريه وراء الكراسي والمكاسب والمغانم … كيف يمكن الرهان على من يأتي مثل هكذا ممارسات، للتصدي لوباء عنيد في حرب، لانملك فيها سـوى أسلحة الوقاية والاحتراز ..