مذكرات مواطن أدمن عشق الوطن (العشق الثاني)
في الأوقات التي يهتز فيها حبل الحياة يكتشف المرء، أو بالأحرى يعيد اكتشاف البديهيات، تبدو كأنها أمور خارقة….. في الأوقات الصعبة….. في هذا الحصار الكامل…. في اللحظة التي يشتد فيها السباق بين الحياة والموت، تسطع صور قديمة حزينة وربما سعيدة مطمورة…. تسطع صورة بيت وفنجان قهوة ورف من الكتب والأصدقاء يأتون ويذهبون …. هناك صباحات صغيرة تعود… صباحات شرب القهوة في المقهى، وسماع أصوات الناس في الشارع والأطفال في الزقاق لم تكن لتلك الأشياء قيمة خاصة بحد ذاتها… كانت جزءا من حياة يومية عادية… الآن أراها وكأنها أمر خارق… غير عادي…. وربما مستحيل… فهل حدثت تلك الأشياء؟ …هل كانت جميلة وغير قابلة للتكرار كما أراها الآن؟ ….. كل شيء يتبدد وينحل ….يأخذ حالة هلامية من الحلم والذكرى … تصير الأشياء غيما أبيضا … مجرد حكايات عابرة … ففي ليالي النفس المبدعة والتواقة إلى الحرية التي وحدها تحتفظ بوهج الذكرى والموسيقى وبراءة الطفولة … كان يوما مشمسا من أيام حزيران / يونيو سنة 1981 وسماء البيضاء ارتدت لباسا أسودا قاتما دخان الحرائق المتصاعدة في الجو ودموع الكادحين المنهمرة كشلال هادر … وحزيران شهر الهزائم والنكسات العربية يشهد في يومه العشرين عرسا دمويا … تلك كانت بداية البداية… وبين البداية والبداية ألف حلم ينهار وآلاف المثل والمبادئ والقيم تتساقط …. أصغي لدبيب صراخ يعلو شيئا فشيئا نابع من أعماقي يستحوذ علي هذا الملعون فينتابني جنون الطواف بشوارع المدينة الثكلى … أخرج ناشدا الترويح عن النفس لعلني أجد بعض أصدقائي لكي نلعب ونتسامر كباقي الأيام الماضية لكن الدوريات العسكرية التي تجوب أزقة وشوارع المدينة تعيدني مسرعا إلى البيت … أرتمي بين أحضان أمي لعلي أجد الأمان والاطمئنان الذي بدأت افتقده في هذه المدينة … أنام في حضنها الدافئ فأحس باطمئنان ومخاض إنسان جديد يولد بأعماقي … وبوجع الإنسان المشاغب والمتمرد بداخلي صرخت لتتم بذلك ولادة الإنسان المهووس بحب هذا الوطن.