مذكرات مواطن أدمن عشق الوطن (العشق الأول)
في المحطات المتعبة من متاهات الأيام الرتيبة، أو حين يلفني الغسق بثمالة كأسه، أو حين أستحضر إنشاد مارسيل خليفة لأغنية ” أحن إلى خبز أمي ” أو فيروز لأغنية ” زهرة المدائن “، أفصح للطفل الذي كنته عن رغبتي الدفينة في استحضار بعض من صفحات ذاكرته بشكل عفوي ودون ترتيب مسبق، افتح محضرا لاعترافاته فيرفض لعبة التلصص هذه على زمن مضى، لكنني أقنعه على مضض، فتحضرني صورة ضبابية لطفل لا يتعدى عمره السابعة ربيعيا يسير بمحاذاة أمه بكتاب فيه هويته التي حنط فيها دون إرادته، ليدخل إلى عالم فك الرموز ومغاليق الحرف والفكر وسبر أغوار الحياة، ترى هل يكفي كتاب ” الحالة المدنية” دليلا للسباحة في مياه الحياة السرية؟ …. في أعلى صفحة الكتاب الثانية يسارا صورة تعريف تلاشت ملامح صاحبها الذي اسمه العائلي أحمله … رجل لم تصمد من سحنته أمام زحف الزمن سوى نظرة عزة وكرامة وشارب منحوت بعناية …. رجل تربطني به أبجدية تراتبية: ألف … باء …. باستثناء الشظايا الضبابية هذه تاهت كل التفاصيل الحزينة وربما السعيدة إن وجدت … ففي غمرة الترحال المسترسل العبثي لم انحت في الذاكرة غير أحداث مفزعة ورم يتيم … الورم الذي عفنته فوضويتي وتمردي الورم الذي تجسد على صفحة من صفحات كتاب ” الحالة المدنية” تاريخ الميلاد / الوفاة.
حدث ذات ليلة من ليالي الدارالبيضاء ذات المنعرجات السالبة لحلاوة العيش … ولهذا ربما ترتبط لدي الطفولة بالموت … الموت المجاني في شوارع هذه المدينة البيضاء/ السوداء …. الموت الصامت وسط رجاة الفولاذ العنيفة … الموت العادي الذي تنشره الجرائد … الموت الذي جعلني أعلم مبكرا بمدى عجز وجهل الكبار عن عدم امتلاكهم للأجوبة على سؤال الموت … في ذلك الوقت تخلصت من تبعيتي الأوديبية لوالدي اللذان كانا يفترض فيهما العلم بالأشياء كلها … من منا لا يتذكر السؤال الذي نردده دائما للشخص البالغ الذي كانت لنا فيه ثقة مطلقة … ماذا يوجد بعد الموت؟ … ولما لا يستطيع الإجابة الآباء والأمهات ويقرون بعدم وجود إجابة للسؤال … وحين نعيد الكرة من جديد بإلحاح ” أجيبونا … أجيبونا… ” وحين يجيبون بعجز الكبار كل الكبار عن عدم وجود جواب … آنذاك يصير الطفل على قدم المساواة مع الراشدين …. لقد تخلصت من القيود اللزجة والصلبة مبكرا … هكذا صرت أتسلل من المدرسة كي أركض خلف كرة بلاستيكية، وأتعب في مداعبتها ومحاورتها وتمريرها وسط كومتي حجر … هكذا صرت أتردد على دور الشباب … هكذا لم يعد الطفل الذي قتله الموت يقتني اسفنجة كل صباح ببعض الريالات التي تهبها له أمه بل صار يدخر ليقتني كتب تروي نهمه الفكري وشراء تذكرة سينما يوم الأحد ليروي عطشه الخيال… هكذا بدأت تسويد صفحة زمن جديد وتعب مغاير إلا أنها تمزقت هي الأخرى من جراء موت رمزي، حدث بالتقسيط المثير نتيجة العلل التي ظلت ترافقني منذ صباي … لكن هذه الحكاية من صنف ىخر قد تحل لحظات من التجلي فأكتب عنها.