الهجمات السيبرانية وسؤال الدولة الحديثة: نحو مقاربة شاملة لحماية البنية الرقمية والسيادة الوطنية

الهجمات السيبرانية وسؤال الدولة الحديثة: نحو مقاربة شاملة لحماية البنية الرقمية والسيادة الوطنية
بقلم الدكتور طلوع عبدالإله باحث في القانون العام والعلوم السياسية

 

لم تعد الهجمات السيبرانية مجرد أحداث عابرة في سجل الجرائم الرقمية، بل تحولت إلى مؤشرات عميقة على تحول جذري في شكل الصراعات الدولية وطبيعة السلطة داخل الدولة الحديثة. فعندما تتعرض وزارات، مؤسسات أمنية، أو بنوك مركزية لاختراقات رقمية، فإن الأمر لا يتعلق فقط بثغرات تقنية، بل بمسّ مباشر في مفهوم السيادة ذاته، وهو ما يستدعي مساءلة شاملة عن طبيعة الدولة في عصر الرقمنة، وعن أي بنية مؤسساتية يُفترض حمايتها في هذا الفضاء الجديد.

لقد أظهرت أحداث مثل هجوم “SolarWinds” في الولايات المتحدة، أو الهجمات الإلكترونية الروسية على أوكرانيا، أن الصراعات لم تعد تبدأ بالدبابات، بل بخطوط الكود وموجات الاختراق الصامتة.
ولا يُستثنى من ذلك حتى الدول ذات البنيات الرقمية المتقدمة، ما يطرح سؤالًا مؤرقًا: إذا كانت أكثر الدول استثمارًا في الأمن السيبراني يمكن اختراقها، فماذا عن الدول النامية التي تعتمد في أغلب بنيتها التحتية الرقمية على شركات أجنبية؟
وهل نملك فعلًا قرارنا الرقمي أم أننا نعيش وهم السيادة في زمن الخوادم العابرة للحدود؟

تتحول الرقمنة هنا إلى سلاحٍ ذو حدين، فمن جهة، تتيح إمكانيات كبرى لتحسين الخدمات، تسريع الإجراءات، وتوسيع نطاق الشفافية، لكن من جهة أخرى، قد تُستعمل لتبرير توسيع أدوات المراقبة والضبط، تحت ذريعة “الأمن المعلوماتي”، ولعل الخطر الأكبر يكمن في أن يتحول هاجس الأمن الرقمي إلى مدخل للتضييق على الحريات، أو لتغذية نزعات استبدادية تستند إلى “حق الدولة في الحماية”، دون وجود ضوابط قانونية صارمة، أو رقابة مجتمعية مؤسساتية.

إننا اليوم أمام واقع جديد، تُختبر فيه قدرة الدولة على التكيّف لا فقط على المستوى التقني، بل على المستوى الأخلاقي والسياسي أيضًا.
فكيف يمكن بناء نظام حماية رقمي قوي دون التحول إلى “دولة مراقبة”؟
وكيف نضمن ألا تتحول السيادة الرقمية إلى مبرر لتآكل الديمقراطية؟
ثم من يملك فعليًا مفاتيح القرار في البنية الرقمية: الدولة، أم الشركات العابرة للقارات، أم الخوارزميات ذاتها؟
وهل يحق لدولة أن تدير قطاعات سيادية بحلول رقمية لا تملك كودها المصدري ولا تتحكم في تحديثاتها؟

في زمن أصبحت فيه البيانات أهم من الموارد الطبيعية، تطرح معركة الأمن السيبراني أسئلة وجودية على الدولة: من نحن في هذا العالم الرقمي؟
هل نملك أدوات دفاعنا؟
من خصومنا؟ ومن هم شركاؤنا الفعليون؟
لقد ولّى زمن الحدود الواضحة، وباتت الدولة مهددة من خلال بريد إلكتروني أو تطبيق هاتف ذكي.

إن حماية المؤسسات لم تعد مسؤولية تقنية تُسند لمهندسين فقط، بل هي معركة سياسية، استراتيجية، وقانونية، تتطلب مقاربة شمولية. لا يكفي أن نشتري برامج حماية من الخارج، بل يجب أن نبني بنيتنا الرقمية الوطنية على أساس السيادة، الشفافية، والعدالة. لأن الدفاع عن المؤسسات في هذا العصر، هو دفاع عن فكرة الدولة ذاتها.

فهل نمتلك، في دولنا، الشجاعة الفكرية والسياسية لصياغة هذا المشروع؟
أم سنظل نرتق الثقوب بعد كل اختراق، ونردد خطاب السيادة في حين أن الخوادم خارج السيطرة؟

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *