الملك في قلب الإجماع: في واجب التوقير والاحترام

ينص الفصل 46 من دستور المملكة المغربية على أن “شخص الملك لا تنتهك حرمته، وللملك واجب التوقير والاحترام”، وهي ليست مجرد صياغة قانونية جافة، بل تعبير عن منطق مؤسسي عميق، يُعلي من الرمزية الدستورية والوجدانية للملك، ويُرسّخ مكانته كفاعل محوري في النظام السياسي المغربي. فالدستور، وهو تعاقد سياسي وقانوني، اختار أن يُميز الملك بمكانة سامقة، ويصونه من كل ما من شأنه أن يُضعف هيبته أو يُفكك رمزيته الضامنة.
إن هذا الواجب لا يمكن اختزاله في الصيغ البروتوكولية أو أشكال الخطاب الرسمية، بل يُفترض أن يُصبح جزءًا من الثقافة السياسية والمدنية للمجتمع. فالتوقير هنا ليس فقط واجبًا قانونيًا، بل يُعبر عن إدراك جماعي لدور الملكية في ضمان الاستقرار، وحفظ وحدة البلاد، وصيانة توازن السلطات، وتعبئة الأمة حول ثوابتها العليا.
وقد ذهب الأستاذ عبد العزيز العلوي الحافظي، أستاذ القانون الدستوري، إلى أن “مؤسسة الملكية تُعد المرجع الأعلى للسلطات الثلاث، لكنها في الوقت نفسه، ليست طرفًا فيها، بل فوقها جميعًا”، ما يجعل من واجب التوقير ضرورة ديموقراطية قبل أن يكون مسألة طقسية.
أما الفقيه الدستوري محمد ضريف، فقد شدد في أكثر من مناسبة على أن “المكانة الرمزية للملك في النظام المغربي ليست مفروضة بالإكراه، بل مبنية على تاريخ من التعاقد العميق بين الملكية والشعب، وعلى التحام وجداني وثقافي يجعل من المساس بها مساسًا بالكيان نفسه”.
ويُضيف المفكر عبد الله العروي، في معرض حديثه عن الخصوصية المغربية، أن “الملكية المغربية ليست امتدادًا آليًا للملكية الغربية، بل هي مؤسسة متجذرة في الشرعية الدينية والتاريخية والاجتماعية، ومن هنا تأتي حساسيتها العالية تجاه التوظيف غير الرشيد في الخطابات اليومية”.
من هذا المنظور، تتعدد تجليات واجب التوقير والاحترام، ويمكن تفصيلها كما يلي:
توقير المواطن للملك بما يليق به من مقام سلطاني وديني ودستوري، يتجاوز المواقف السياسية الظرفية.
عدم المزايدة باسم الملك في الخطاب السياسي، لأن في ذلك توظيفًا لمكانة موحدة لأهداف ضيقة تُفقدها حيادها الرمزي.
صون سرية المجالس الملكية، وعدم تحويلها إلى مجال للتأويلات أو التداولات الإعلامية غير المضبوطة.
عدم استدعاء الملك في الحملات الانتخابية أو الصراعات الحزبية من أجل سحب الشرعية أو توظيفها.
الامتناع عن المس بالحياة الخاصة للملك، احترامًا للحد الفاصل بين الوظيفة العامة والحياة الشخصية.
اختيار الألفاظ بدقة عند الحديث عن الملك، بعيدًا عن الانزلاقات اللغوية التي تمس الوقار العام.
رفض تحويل الملكية إلى موضوع تجاري أو مادة للمتاجرة الإلكترونية، لأن في ذلك تسليعًا لمؤسسة لا تقبل التبسيط.
تجنب الخطابات التي تُفرغ الملكية من رمزيتها، فتجعلها شبيهة بمؤسسات الدولة العادية، وهذا خطر على المخيال الجماعي والاستقرار السياسي.
وفي هذا السياق، تُمثل المؤسسة الملكية أكثر من مجرد جهاز حكم؛ إنها نقطة التقاء للشرعية التاريخية والدينية والدستورية، وتجسيد لمفهوم الدولة الراعية والحامية للمصالح العليا. وبالتالي، فإن احترامها وتوقيرها ليس ناتجًا عن الخوف، بل عن الوعي بما تمثله من توازن ضروري في واقع سياسي معقد، وما تضطلع به من أدوار استراتيجية في الداخل والخارج.
ختامًا، فإن الدستور لم يُحمّل المواطن فقط واجب احترام الملك، بل حمّل النخب، من مفكرين وسياسيين وصحافيين، مسؤولية أعمق: الحفاظ على الهالة الرمزية للملك بوصفه الضامن الأعلى لوحدة البلاد واستمراريتها. فالتوقير الحقيقي يبدأ من الخطاب، ويتجسد في السلوك، ويتكرس في الثقافة السياسية للأمة.