“اللي ما عجبو الحال يخوي المدينة”: خطاب الإقصاء في زمن الانحدار الديمقراطي

في لحظة تاريخية حرجة يفترض فيها أن تعمّ ثقافة الحقوق والحريات، يُطلّ علينا بعض المسؤولين – ممن يفترض أنهم حماة المصلحة العامة – بخطاب ينتمي إلى زمن الردع السلطوي والانغلاق الشمولي، مفاده: “اللي ما عجبو الحال يخوي المدينة”، هذه العبارة ليست مجرد زلة لسان، بل تكشف عن توجه خطير، يختزل المدينة – والمجتمع – في فئة بعينها، ويقصي كل من يجرؤ على الاختلاف أو المطالبة بالتغيير.
هذا الخطاب، المتكرر بصيغ متعددة، لا يعكس فقط جهلًا بمبادئ الديمقراطية، بل يشي بتحولها إلى أداة لخدمة مصالح فئوية، تُستخدم لتطبيع الاستبداد وتحصين الامتيازات، تحت غطاء “التمثيل” أو “الشرعية الانتخابية”، ومن ثَم، فالمشكل لم يعد في غياب الديمقراطية، بل في اغتصاب معناها، وتحويلها إلى واجهة تجميلية لسلطة لا تحتمل النقد ولا التعدد ولا مساءلة الفعل العمومي.
حين يتحدث مسؤول – أيًّا كان موقعه – بهذا المنطق، فإننا لا نكون أمام “رأي شخصي”، بل أمام تعبير رسمي عن إيديولوجيا سلطوية تُمعن في تدجين المجتمع، وابتزاز المواطنين بلغة التهديد: إما أن تقبل بـ”الحال كما هو”، أو تُتَّهَم بعدم الوطنية وتُطالَب بالمغادرة.
والحال أن الحق في النقد والاحتجاج والمطالبة بالإصلاح، هو جوهر المواطنة، أما مطالبة المعارضين بـ”الانسحاب من المدينة”، فليست سوى وجه من أوجه التهجير الرمزي، الذي يُمارَس ضد كل من لا يُطبّل ولا يُصفّق.
إنها مصادرة للحق في المدينة، في التعبير، في الوجود، والأسوأ من ذلك، أنها تكشف عن عمق التواطؤ بين بعض النخب المستفيدة من الوضع، وآليات السلطوية التي ما زالت حاضرة في العقليات والسلوكيات والسياسات.
ما نحتاجه اليوم ليس مواطنين صامتين يُعجبهم كل شيء، بل مواطنين أحرار، ناقدين، مشاكسين، يرفضون الرداءة ولا يغادرون مدنهم. فالمغادرة الحقيقية يجب أن تكون للفساد، وللخطاب الإقصائي، ولعقليات التخوين التي تحاصر الديمقراطية من داخلها.
إن الوطن ليس نادياً مغلقاً على فئة من الراضين، بل هو فضاءٌ مشتركٌ للتعدد، للتوتر، للجدل، ولإنتاج واقع أفضل. ومن لا يحتمل هذا التعدد، هو أول من يجب أن يُراجع موقعه في هذا الوطن.