اللغة السياسية في المغرب: من البلاغة الخشبية إلى انقراض المعنى

في بلاد تُعقد فيها التحالفات قبل أن تُصاغ الأفكار، وتُوزّع المناصب قبل أن تُصاغ البرامج، تصبح اللغة السياسية مرآة صدئة لواقع أكثر صدأً. إذ يكفي أن تتابع جلسة برلمانية أو تصريحًا حزبياً أو خرجة إعلامية لقيادي حزبي – ولا فرق هنا بين “الأغلبية” و”المعارضة” إلا في درجة الضجيج – حتى تدرك أن الخطاب السياسي المغربي دخل مرحلة “نهاية المعنى”، حيث تُقال الكلمات دون أن يُراد بها شيء، وتُرفع الشعارات دون أن تُسندها أي هندسة فكرية أو رؤية مجتمعية.
اللغة السياسية عندنا – ويا للمفارقة – لا تخاطب العقول ولا تعبّر عن مشاريع، بل تكتفي بالتحليق فوق الواقع كما تحلق الحمائم في حضرة الجنائز. هي لغة تحترف التكرار، تعشق الإنشاء، وتدمن الأفعال المبنية للمجهول: “سيتم اتخاذ الإجراءات”، “نحن واعون بالإشكالية”، “هناك تفكير عميق”… عبارات تصلح لكل سياق ولا تصلح لأيّ غرض.
ولأن السياسة لا تكون بلا لغة، فإن موت المعنى في الخطاب السياسي المغربي ليس مجرد خلل تواصلي، بل علامة على خواء فكري وأزمة تمثيلية حقيقية. فالفاعل السياسي لا يتهرب من “قول الحقيقة” فحسب، بل يتهرب من قول أي شيء على الإطلاق. وهذا ما يجعلنا نستحضر “اللغة الخشبية” التي تحدث عنها كلود دو فورست، تلك اللغة التي تُستخدم لتبرير كل شيء دون أن تشرح شيئًا، ولتبرز السلطة دون أن تفتح أي نقاش فعلي.
الأخطر من ذلك، أن هذه اللغة لا تُضعف فقط الرابط بين السياسي والمواطن، بل تُصيب المواطن ذاته بالعدوى: يستهلك الخطاب الفارغ، ويعيد إنتاجه في حديثه اليومي، فيتحول النقاش العام إلى تكرار جماعي لخطابات ميتة. فنصبح أمام مشهد عبثي، حيث الجميع يتكلم، لكن لا أحد يُصغي، لأن لا أحد يقول شيئًا يستحق الإنصات.
أين هي المفاهيم السياسية الكبرى؟ أين المشروع المجتمعي؟ أين النقاش حول الدولة الاجتماعية، العدالة الضريبية، الحريات الفردية، مستقبل التعليم؟ كل ذلك يُختزل في لغة هجينة، هجينة بين الخوف والتعميم، بين الغموض المقصود والطمأنة الفارغة.
في المقابل، عندما نطالع خطابات سياسية في دول أخرى – حتى تلك التي تتقاسم معنا مشاكل بنيوية – نلمس حضورًا للمفاهيم، لصراع الرؤى، لمفردات تجرّ خلفها فلسفات ومواقف. أما في خطابنا السياسي، فالكلمات تسبح حرة طليقة، لا تنتمي إلى أحد، ولا تُلزم أحدًا.
إن تجديد اللغة السياسية في المغرب ليس ترفًا بل ضرورة ديمقراطية. فلا يمكن لمجتمع أن يتقدم بخطاب مُصاب بفقر لغوي، وبفكر يُداري قُبح الواقع بجمال الإنشاء. الإصلاح يبدأ من المعنى، والمعنى لا يُولد إلا من صراع الأفكار لا من صمت الشعارات.
لعل أول خطوة نحو استعادة ثقة المواطن، ليست تغيير السياسات فقط، بل تغيير الطريقة التي نتحدث بها عن السياسة. لأن الكلمات، حين تكون حقيقية، تخلق الواقع. وحين تكون خاوية، لا تخلق إلا مزيدًا من العزوف واللامبالاة.