السياسة بين القدرة والإرادة (التبرير الفلسفي لوجوب الممارسة السياسية )

السياسة بين القدرة والإرادة (التبرير الفلسفي لوجوب الممارسة السياسية )
عبدالإله طلوع: دكتور في القانون العام والعلوم السياسية

الإنسان حيوان إجتماعي. هذه مقولة اجتمع حولها الكثيرون. وتعني حاجة الإنسان إلى التعايش والتكامل مع بني جسمه داخل نمط حياة واحد وإن كانت تختلف تفاصيله.
وتعتبر الممارسة السياسية وجها من الأوجه التي تطبع حياة الإنسان، لاسيما في ضوء التطور الذي شهده الإنسان.
المقال الذي نقترحه على القارىء يتناول المسألة من زاوية التبرير الفلسفي، اعتمادا على بعض المحطات التاريخية والمواقف الفكرية.

في حاجة إلى السياسة:

الإنسان حيوان اجتماعي، فهو لا يستطيع أن يحيى ويتفتح الا وسط بني جنسه. لكنه في الآن ذاته حيوان أناني.
ف”اجتماعيته غير الاجتماعية”، كما يقول ” كانط” تجعله لا يستطيع أن يستغني عن الآخرين ولا أن يتخلى من أجلهم عن إرضاء رغباته الخاصة. لذلك فنحن في حاجة إلى السياسة، حتى يتسنى لنا فضّ النزاعات بطريقة أخرى غير طريقة العنف، وحتى تجتمع قوانا وتتضافر بدل أن تتعارض، ولكي نقي أنفسنا الحرب والخوف والهمجية، لذلك فنحن نحتاج إلى الدولة. وليس لأنهم متضامنون، بل ربما لكي تعطى لهم فرصة ليصيروا متضامنين. ولا يكون ذلك ” بالفطرة ” رغم أنف ارسطو، وإنما بحكم الثقافة والتاريخ.
كان اليونان يستعملون أكثر من لفظ واحد للدلالة على ما نفهمه من كلمة حياة. فقد كانوا يستعملون لفظ zōē للدلالة على الحياة الطبيعية العارية المشتركة بين جميع الكائنات الحية( الحيوانات، الكائنات الإنسانية، الآلهة..)، ويستعملون لفظ bios للدلالة على الطريقة التي يحيا بها غرد أو جماعة ما، وهذا هو ما يعني السياسة، ب هو السياسة ذاتها.
أما الحياة العارية( الحيوانية) فإنها خارجة عن المدينة polis، وهي مقصورة على الحياة التناسلية. لمّا يتكلم أفلاطون ( في فيلابوس) وأرسطو ( في الأخلاق النيقوماخية) على أنواع الحياة، فإنهما يعبران عن حياة الفيلسوف التأملية والحياة السياسية بلفظ zōē وليس بلفظ bios . ولما يحدد أرسطو في كتابه السياسة غاية المجتمع الفاضل ( المثالي) فإنه يقابل الحياة الحيوانية( أي كون الإنسان يحيا حياة سياسية الكيف )، ويعرّف ال – ماهو سياسي – ( الخاصة السياسية) بأنه وجود جوهري غايته الحياة الصالحة الخيّرة. هذا التحديد صار بعد ذلك ” النصّ” المرجعَ في تاريخ الفكر السياسي الأوروبي( وترجمته اللاتينية التي وضعها عالم اللاهوت الدومينيكي (غيوم دو ميربيكي) قد زكته بما جعل طوماس الأكويني يجمع بمهارة فائقة بين كمال المدنية وكمال الإنسان الذي يفارق حيوانيته فيحقق الرؤية السعيدة ( vision béatifique )، أي بين السيادة السياسية والقدر المسيحي للإنسان؛ وأن الإنسان الذي يخلو من هذا القدر فهو حيوان دون المدنية وهو رعية للنفس العاقلة المفارقة. وأما فيما يخص عبارة أرسطو الشهيرة: “الإنسان حيوان سياسي” فكونه يقول ” حيوانا ” وليس “حيا” يؤكد أن ال “ما هو سياسي” هو الخاصية التي تحدد جوهريا حيوانية الإنسان فتجعله كائنا حيا بالمعنى الذي نعرف، وذلك مثل قوله في الآلهة إنها حيوانات أزلية. فالأزلية تحدد جوهرية الإله، وبذلك يصبح إلاها حيا ( بما أنه ليس في الثقافة العربية استعداد لهذا التمييز وأن لفظ الحياة فيها يلحق بكل من الإنسان والحيوان والجماد، فإننا لا نقف عليه في نصوص الشراح العرب القدامى؛ يرد مثلا في شرح هذه العبارة المتعلقة بالآلهة في كتاب تفسير ما بعد الطبيعة لابن رشد: ثم قال [ أرسطو ] فنقول إن الإله حي أزلي في غاية الفضيلة ، فإذن هو حياة وهو متصل أزلي فإن هذا هو الإله، يريد فنقول إنه إن كان ما يدل عليه اسم الإله أنه حي أزلي في غاية الفضيلة.. وهكذا فالخاصية السياسية ” تضاف” إلى الحي الطبيعي( الحيوان) وبها يكمل الإنسان، وعليها يقوم مفهوم الإنسان، وبها يتميز عن غيره من الكائنات الحيوانية/ الحية. وهنا يبدو واضحا في الفكر اليوناني أن الخاصية السياسية والخاصية العقلية ( اللوغوس) يتبادلان محلّ جوهرية الإنسان. فالإنسان، هذا الحيوان العاقل وهذا الحيوان السياسي، لا يشْرُف النفْسَ النباتية والحيوانية بوصفه نفسا عاقلة ( ناطقة) فقط، بل بوصفه عقلا وسياسة، اي بوصفه كائنا ” يستثني” حيوانيته ويقصيها عن نفسه العاقلة في الوقت الذي ” يستثني” فيه الحياة العارية الطبيعية ويقصيها عن المدينة . وتقع المدينة ( في كتاب السياسة) في موضع الانتقال من الصوت إلى اللوغوس( النطق، المنطق، العقل.. ). ويتبين من ذلك أن العلاقة بين الحياة الطبيعية المتوحشة والحياة السياسية هي نفس العلاقة التي يريدها بين الصوت واللوغوس، تعريفُ الإنسان بكونه حيوانا ناطقا. يقول أرسطو في هذا السياق: ” إن الإنسان طبعه حيوان مدني، وإن لم يكن مدنيا، لا اتفاقا ولكن بالطبع، اعتبر أسمى من البشر أو عدّ رجلا سافلا، شأن ذاك اللئيم الذي قرعه هومرس إذ قال عنه: ‘ إنه متوحش جان مشرد’. فمن طبع على هذا الغرار لم يفتح الا إلى الحرب لأنه أشبه بالطير لا يعرف الخضوع اني.(…) فالإنسان وحده ناطق من بين جميع الحيوانات. وبما أن الصوت يشير إلى الألم واللذة، فقد وّهب لسائر العجماوات. فطبيعتها قد بلغت الشعور بالألم واللذة ( … ) وأنا النطق فللدلالة على النفع والضرر. ومن ثم على العدل وعلى الجور وما اختص به الإنسان دون سائر الحيوانات انفراده بمعرفة الخير والشر والعدل والظلم وما إليها. وتبادل تلك المعرفة ينشئ الأسرة والمدينة”. وهكذا فإننا نقول الكائن الحي في اللوغوس مثلما نقول الحياة العارية في المدينة. إن السياسة إذن بنية الميتافيزيقا اليونانية_ الأوروبية، و ” تسيييس” الحياة العارية الطبيعية هي المهمة الميتافيزيقية الرئيسة الاي تقلدتها الثقافة الأوروبية، وموضوعها ورهانها هو إنسانية ” الإنسان الحي”.
لقد ظل تاريخ الفكر السياسي ينظر دائما في هذا الموضوع( موضوع المدينة وتقابل الحياة البسيطة vivre فيها والحياة الخيّرة bien vivre) من باب فحص وتحديد طرق الحياة الخيّرة بوصفها غاية ال ” ما هو سياسي “. وهذه هي السياسة بالذات: إنها التاريخ وهو يصنع، وهو ينعقد وينحل، وهو يتكرر ويتواصل. إن التاريخ في الزمن الحاضر هو تاريخنا، وهو التاريخ الوحيد الموجود.
أنى لنا إذن ألا نكترث للسياسة؟ إن السياسة هي التدبير غير الحربي للصراعات والتحالفات وموازين القوى، وهو تدبير لا يقوم فقط بين الأفراد ( كما يمكن أن نرى ذلك في الأسرة أو في أي مجموعة أخرى) بل يتم أيضا على صعيد المجتمع برمّته. السياسة إذن فن العيش معا، في ظل دولة واحدة أو مدينة أو حاضرة ( ‘ بوليس’ في لغة الإغريق) واحدة، مع أناس لم يخترهم الفرد، أناس لا يحس تجاههم بأي شعور خاص، أناس يشكلون، من أوجه عدة خصوصا بقدر ما هم _ أو أكثر ما هم _ حلفاء. إن هذا يقتضي سلطة مشتركة وصراعا من أجل السلطة، ويقتضي حكومة كما يقتضي مواجهات ما- بيد أنها تسويات ذات صبغة مؤقتة-، ويقتضي في الأخير اتفاقا حول كيفية فض النزاعات. وإلا فلن يكون ثمة من لغة غير لغة العنف، وهذا ما تسعى السياسة إلى تفاديه قبل كل شيء إن هي أرادت أن تثبت وجودها.
إن السياسة تبدأ حيث تنتهي الحرب. مدام الأمر أن نعرف من يحكم ومن يخضع، ومن يشرع ويضع القانون . والقيّم على ذلك إنما هو القائد. قد يكون حاكما طاغية ( في حكم بيروقراطي) ، وقد تكون المؤسسة الدستورية والشعب ( في نظام ديموقراطي) ، وقد يكون مجموعة مو الأفراد ( طبقة اجتماعية أو حزبا أو نخبة حقيقية أو مزعومة، من أرستقراطية وغيرها ). وقد يتعلق الأمر – وكثيرا ما يحدث هذا- بمزيج فريد من هذه الأضرب الثلاثة من أنظمة الحكم.
مجمل القول ألا سياسة من غير سلطة، التي تعلو على سائر السلط، على وجه الأرض على الأقل، وتقوم مقام الضامن والحامي لها. ذلك أن ” السلطة موجودة في كل مكان ” كما يقول ‘”فوكو”‘ بل إن السلط عديدة لا حصر لها، لكنها لا يمكن أن تتواجد إلا واقعة تخت إمرة سلطة يعترف بها الجميع أو تمليها أعتى هذه السلط.تعدد السلط وأحادية القائد أو الدولة: تلك هي المعادلة التي تدور حولها اللعبة السياسية، ولهذا فلا بد من السياسة.
هل سنخضع يا ترى لمن هبّ ودبّ من الأنذال الطغاة؟ لمن هب ودب من صغار الزعماء؟ كلا. إننا نعلم حق العلم أنه لا بد من سلطة أو سلط شتى، ونعي جيدا أنه يجب علينا الطاعة، لكن ليس لمن اتفق وكيفما اتفق وبأي ثمن. إننا نريد أن نطيع عن حرية، نريد أن تعمل السلطة التي نمتثل لها لا على إلغاء سلطتنا، بل على تعزيزها وصيانتها، إنه مسعى لا نبلغه تمام البلوغ، ومطمح لا نعزف عنه تمام العزوف.
لذلك فنحن نمارس السياسة. ولذلك سنستمر في ممارستها، حتى نكون أقوى، لا منعزلين متخاصمين، بل ” مجتمعين “كنا يقول المتظاهرون والمعارضون، لأن هذا أمر ضروري، ولأنه لا حاجة إلى السياسة بدون هذا. تقتضي السياسة الاختلاف في الرأي والموقف وتقتضي الصراع والتناقض. فعندما يتفق الجميع حول القول مثلا إن الصحة خير من المرض، او السعادة افضل من التعاسة، فهذا ليس من السياسة شيء. وعندما ينزوي كل فرد في ركنه ويحصل اهتمامه في مسائله ومشاغله الخاصة، فهذا ليس من السياسة أيضا، إن السياسة تجمعنا إذ تقيم تعارض بيننا. وهذا التعارض الذي تحدثه هو حول أفضل طريقة نجتمع بها. وهذا واقع سيستمر غلى الدوام. يخطئ من ينذر بنهاية السياسة ويعلن نهاية التاريخ؛ فهما، عكس ذلك ، سيستمران، بل يجب أن يستمرا، في إطار الصراع، الصراع الذي نرتضيه ونتجاوزه.
إن السياسة أشبه ما تكون بالبحر يتجدد نشاطه بلا انقطاع. ذلك أنها صراع، إنها السلام الوحيد الممكن . إن السياسة ضد الحرب- لنقلها مرة اخرى- وفي هذا ما فيه من شرف وعظمة، إنها نقيض حالة الفطرة، وفي هذا ما فيه من ضرورة. ترى من عساه يريد أن يحيا وحيدا؟ ترى من عساه يريد أن يحيا ضد سائر الناس؟ إن حالة الفطرة كما يقول ” هوبس” هي ‘الحرب التي يقودها كل فرد ضد كل فرد’. وآنئذ تكون حياة بني البشر حياة “” متوحدة، يطغى عليها الحاجة والعسر؛ حياة تتسم بطابعها الشبيه بالحيواني، وأمدها قصير””. الأحرى إذن أن يكون هناك سلطة مشتركة، الأحرى إذن أن تكون السياسة.

كيف نعيش معا؟ ولأية غاية؟

هاتان هما المسألتان اللتان ينبغي حلهما وإعادة طرحهما توا ( لأن من حقنا أن نغير رأينا ونغير المعسكر الذي ننتصر له والأغلبية التي نرتضيها…) فعلى كل فرد أن يفكر في هاتين المسألتين، وعلى الجميع أن يناقش ويناظر حولهما.

ماهي السياسة؟ السياسة هي الحياة المشتركة الموسومة بالصراع، وذلك تخت سيطرة الدولة وتحت مراقبتها.
السياسةهي فن أخذ السلطة والحفاظ عليها واستعمالها.
إنها أيضا فن اقتسام السلطة؛ ذلك أنه ليس ثمة في الواقع الأمر من طريق أخرى لامتلاك السلطة.
يخطئ من يرى في السياسة مجرد نشاط هامشي سهمه ونصيبه الاستهجان والازدراء. إن العكس هو الصحيح: فالإهتمام بالحياة العامة والمصير المشترك والمواجهات بين هذه الفئة وتلك هي مهمة جوهرية بالنسبة إلى كل كائن بشري ولا يحق لأحد أن يعفي نفسه منها. هل تقبل أن تدع المجال فسيحا أمام العنصريين والفاشلين والغوغائيين اصحاب الخطاب الديماغوجي؟ هل ترضى أن تدع البيروقراطيين يقررون ويخططون بدلا منك؟ ام هل تراك تدع التكنوقراطيين والوصوليين يفرضون عليك مجتمعا في شاكلتهم؟ بأي حق ستشكو إذن مما يصيبه الفساد ويتطرق اليه الخلل، كيف لا تكون ضليعا في ارتكاب ما هو شنيع وما هو أشنع وانت لم تحرك ساكنا لتفاديه؟ التقاعس والخمول ليس عذرا. والقصور والعجز ليس عذرا. فانصرافك عن السياسة معناه عزوفك عن نصيب من سلطتك ، وفي هذا ما فيه من مغبة. وانصرافك عن السياسة معناه أيضا عزوفك عن جزء من مسؤولياتك، وهذا أمر مشين مستنكر، هكذا فاللاسياسة هي في الآن ذاته خطأ وضرب من التقصير، إنها خطأ لأنها تخذل مصالح الشخص، وتقصير لأن فيها إخلالا بواجباته.
لكن يخطئ أيضا من يريد أن يحجّم السياسة في الأخلاق كما لو كان مدار الأمر فيها هو الخير والفضيلة والتجرد والنزاهة، ليس غير. مرة اخرى، العكس هو الصحيح. فلو كانت للأخلاق السيادة والغلبة لما كانت هناك حاجة إلى الشرطة ولا إلى القوانين والقضاء والجيش، ولما كانت هناك من حاجة إلى الدولة وإذن إلى السياسة! فالتعويل على الأخلاق من أجل قهر البؤس والتهميش والإقصاء هو تخريف بطبيعة الحال. والتعويل على المقاربة الإنسانية باتخاذها سياسة خارجية، وعلى الصدقة سياسة اجتماعية، وحتى على مناهضة العنصرية سياسة هجرة، كل هذا هذر وتخريف. لسنا ننفي أن المقاربة الإنسانية والصدقة ومناهضة العنصرية هي أمور ضرورية من الزاوية الأخلاقية ، لكنها أبعد من أن تكون كافية من الزاوية السياسية لحل أي إشكال اجتماعي( ولو كان الأمر كذلك لما احتجنا إلى السياسة ).

بين الأخلاق والسياسة

ليس للأخلاق من حدود، أما السياسة فلها حدود. وليس للأخلاق وطن، عكس السياسة. لا هذه ولا تلك من شأنها أن تضفي على مفهوم العرق معنى ما واردا ، فلون البشرة ليس هو ما يصنع إنسانية الإنسان ومواطنته.. فالأخلاق لا تعترف بغير الأفراد ولا تعرف غير الإنسانية، أما السياسة، اي سياسة، يمينية كانت أم يسارية، فعلّة وجودها إنما هي الدفاع عن شعب ما أو عن شعوب مخصوصة ذات أولوية- ليس ضد الإنسانية؛ فآنذاك سيكون هذا الدفاع غير أخلاقي وسينطوي على نوع من الانتحار-، وهو ما لا تستطيع الأخلاق أن تفرضه أو أن تمنعه.
قد يبدو لنا انه من الأفضل والأنسب أن تكون الأخلاق كافية للوفاء بالغرض، وأن تكون الإنسانية كفيلة بتحقيق المراد، وألا نستشعر أي حاجة إلى السياسة، لكن مبتغى من هذا القبيل معناه ببساطة أننا لا نفقه في التاريخ شيئا وأننا نكذب على أنفسنا.
السياسة ليست نقيض الأنانية ( بينما الأخلاق هي عكس الأنانية)، لكنها تعبير جماعي عن الأنانية، تدبير سمته وعنوانه الصراع، بمعنى أن نكون أنانيين معا، جماعيا، لأن هذا هو قدرنا، وأن نكون كذاك بأكبر قدر من النجاعة والفعالية. كيف يتأتى لنا ذلك؟ علينا أن ننتظم في زمر وأحلاف وتوافقات مجتمعة حول مصالح معينة، وهو ما يطلق عليه اسم التضامن، الذي يختلف عن الكرم، هذه العملة النادرة- وهذا السبب آخر يدفعنا إلى التنويه بالتضامن- فأنا أكون متضامنا معناه أن أذود عن مصالح الآخر حقا، لكن بوصفها، غلى نحو مباشر أو غير مباشر، مصالحي أنا ايضا، هكذا فأنا أسعى وأجتهد من أجل الآخر أفعل ذلك أيضا خدمة لنفسي، لأنه تجمعنا المصالح نفسها وتحدق بنا الأخطار نفسها ويقف في وجهنا الأعداء أنفسهم. هكذا تجري الأمور في مجال العمل النقابي، والتأمين، والضرائب، وهلم جرا. فمن ذا الذي يستشعر الكرم والأريحية اذا كان مستفيدا من التأمين؟ ومنخرطا في نقابة، ومؤديا ضرائبه؟ إن الكرم شيئ لا يمت إلى هذا بصلة، إنه يعني أن أدافع عن مصالح الآخر، لكن ليس لأنها أيضا مصالحي.. الكرم مغزاه أن أدافع عنها وإن لم أكن أشاطره إياها، ليس لأنها تخدمني، بل لأنها تخدمه هو. وعلى هذا فأنا أعمل لصالحه لا لصالحي، وما أندر ذاك!

 

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *