الحسيمة المدينة التي اكتشفت خجلها …افتتاحية مجلة 24

الحسيمة المدينة التي اكتشفت خجلها …افتتاحية مجلة 24
بقلم فؤاد الجعيدي


في الواقع رحلت في عطلة بالصدفة إلى مدينة الحسيمة، كانت المسافة طويلة.. وازدادت بعدا حين عبرت بوابة تازة ودخلت جبال الريف. منعرجات تتلوى نزولا وصعودا، لكن الطريق مريحة، متسعة ذات اتجاهين. وقليلة الحركة.
في ذاكرتي تدور أشرطة تجمهر الناس والشعارات والأحداث التي كنت أتابعها عن طريق الجرائد ومواقع التواصل الاجتماعي.
كنت أعبر مداشر ومدنا صغيرة من هذا الريف باتجاه الحسيمة، وتستهويني هذه الحياة الجبلية بكل مظاهر هذا الثراء والبساطة في تزاوجهما الغريب بيوت طينية وفيلات وعمارات تنبت بجوار المسالك الوعرة.
كنت أبحث عن قسط من الراحة لكن رأسي التي تدور كي لا تغدو كدية تساءلني في محاولة لفهم ما قيل ويقال عن هذا الريف.
المدينة، ليس كباقي المدن المغربية، بسحرها وجمالها شواطئ مثل الأحلام، سوق شعبي به وفرة السمك الطري، والفواكه النضرة الشهية وطرق عرضها من طرف الباعة، تزيد من اشتهائها: العنب والتين اللذان لا تنتجها باقي حقول البلاد مصفوفا في سلال تحافظ على طراوتهما.
كان رفيقي محمد في الجولة، يلزمني أن نمشي على الأقدام إلى الميناء ننزل من المرتفع الأعلى للساحة الكبرى، عبر أدراج شديدة الانحدار إلى أن نقترب من رسو سفن الصيد بالميناء ، نتحدث ذهاب وإيابا عن هذه المدينة التي تحمل أسرارها في بوح متمنع. ونتساءل كيف انقلبت الأحداث وظهر رهط من التجار في المآسي وآلام الناس ، حيث برز إلياس العماري مدعيا تمثيل الساكنة والمعبر الأمين على مطالبهم، وظهر من احتل الساحات في جزء من المغرب الذي عرف استثمارات كبرى في إعداد البينية الطرقية والمسالك في منعرجات جبال الريف.
ما الذي تبقى اليوم من كل هذا الحماس الزائف؟ وماذا حصد الناس البسطاء من الرجة التي عمرت شهورا؟
الثعلب الذي ظهر بينهم وعمل على تأجيج مطالبهم، اختفى إلى غير رجعة من مشهدهم، هذا الثعلب تم تمثيله أمام أصحاب القرار، كذبا وبهتانا أنه المتحكم في خيوط لعبة سياسية، ولدت ميتة في مهدها ولم تنتصر لخطابات التغيير، والتي لا وجود فيها للإيمان بكل الديمقراطيين.
ظهر الثعلب الذي أجج مطالب الساكنة ثم اختفى. وترك جراحات واعتقالات، وحين استفاق الناس من مخدر الشعارات وكثرة الخطب المنشطة، تيقنوا أنهم كانوا ضحية أجندات لتجار جدد، أدركوا من أين تؤكل كتف أحلام الناس.
قابلت صدفة أحدهم، وتعاقدنا على لقاء صحافي كانت رغبتي فيه أن أسائله عن القناعات السياسية التي حملته من حزب التقدم والاشتراكية ومن موقع، التواجد في مكتبه السياسي إلى الأصالة والمعاصرة. وهل كان لهذا الرحيل الغامض سياسيا وأيديولوجيا قناعات يبررها واقع مشحون بقلق الناس؟
وددت أن أستفسره عن مواقف الناس منه اليوم، وقد تأكدوا أنه كان يجيد فقط اللعب ضمن نخب سياسية، تشبه الفرق الرياضية في شوط مدته تسعون دقيقة، ثم بعدها غير القميص للعب مع فريق آخر رغبة في الانتصار لمجموعته ليس إلا. أما جمهور الفرجة فليذهب إلى الجحيم.
في الحسيمة خالطت الناس البسطاء الطيبين ولم ألمس فيهم غير الشعور بأن كلفة الحياة أصبحت لا تطاق، وأن فرص العمل منعدمة وأنهم يرغبون ركوب البحر بحثا عن لقمة العيش كما فعل آخرون.
الناس أكثر لطفا ووداعة في تعاملاتهم اليومية، لكنهم يقبلون مثل كل الناس على الحياة وتنعدم بينهم مظاهر العنف واعتراض سبيل الغير كما يحدث في مدن أخرى.
فريد وسوليت من أكثر المغنين شهرة بين الناس، قابلتهم ذات ليلة على شاطئ بحر الصطيحات ألهبوا الليل بمعزوفات بالقيثارة والهارمونيكا ذكرتني بأغاني بوب دايلن، لكن فزعت كيف لهؤلاء لم تفتح لهم أبواب الدنيا كما فتحت للسياسيين الذي مروا من هنا، وراكموا الثروات ثم اختفوا عن الساحة.
فريد كان يتغنى بالإسبانية والريفية والعربية ويقول لي أن الدنيا لم تقبل عليه. رحل إلى البيرو وتزوج وأدار مطعم زوجته وفي أوقات الراحة دخل معهدا للموسيقى ونال شهادتين في العزف على القيثارة ثم هزه الحنين إلى الوطن وعاد. قال لي: لا تعرف محبة الأوطان إلا في غربة بلاد الناس. هنا كنت أعتز بوطني وأدافع عن مغربيتي. في الغربة تهزنا الأشواق وهي التي عادت بي إلى هنا إلى حضن بيتي( قطران بلادي ولا عسل البلدان)
سوليت الخجول خجل الحسيمة، حين يحكي تتغالب على لسانه الحروف العربية ممزوجة بالكلمات الريفية لكنه يكون أكثر صخبا وجنونا حين يلعب على القيثارة ويغني. قال لي: أنه عزف إلى جانب الراحل ارويشة وكبار الروايس من الأطلس ثم يغيب في عزفه على الآلة التي تطاوعه لأن يتمثل بها حتى الإيقاعات الهندية.
سوليت هو الأخر لم تنصفه الحياة كما نصف العابرين من هذه المدينة.
خرجت بخلاصة واحدة أن ما ينقص الناس، أن يوجد بين من يرافقهم في بناء الحياة دون مزايدات ودون شعارات بل بإرادة وطنية تتوخى النهوض بهذا الفضاء وتمكينه من عوامل المشاركة الواسعة دون وصاية على الناس.
الحسيمة بنت نهضتها كمدينة عصرية، لكنها تنتظر من يبني أملها في الحياة بالعيش الكريم، دون الركوب على أحلام الناس المشروعة.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *