الإنسان الرقمي… حين يُعاد تشكيل الذات في زمن الشاشات

الإنسان الرقمي… حين يُعاد تشكيل الذات في زمن الشاشات

في زمنٍ لا تُقاس فيه المسافات بالأميال بل بالنقرات، وصرنا نحمل ذواتنا داخل هواتفنا أكثر مما نحملها في أعين من حولنا، وُلد “الإنسان الرقمي”… ليس بوصفه كائناً مستقبلياً، بل كتحول نوعي قائم نعيشه لحظة بلحظة.

الإنسان الرقمي ليس مجرد مستخدم للتكنولوجيا، بل هو كائن يعاد تشكيل هويته وتفكيره وانفعالاته داخل الفضاءات الافتراضية. صار حضورنا الاجتماعي، ووعينا السياسي، وعلاقاتنا العاطفية، بل حتى حزننا وفرحنا، تمرّ جميعها عبر بوابة رقمية، تُعيد إنتاجها، أحيانًا على نحو مشوّه وأحيانًا على نحو متضخم.

لكن من يُسيطر على هذا الكائن الجديد؟
السلطة لم تعد محصورة في الدولة أو القانون أو المؤسسة، بل تمددت إلى خوارزميات لا نعرف وجهها، لكنها تعرف وجوهنا. تعرف ميولاتنا، نقاط ضعفنا، سلوكياتنا الخفية، وتعيد تشكيل رؤيتنا للعالم عبر اقتراحات وتغذيات راجعة تُشبهنا أكثر مما نشبه أنفسنا.

في هذا السياق، يتحول الإنسان الرقمي إلى موضوع مراقبة ذاتية، يُسلم بياناته طوعًا، ويتنازل تدريجيًا عن خصوصيته تحت وهم الانتماء، وحرية التعبير، والقبول الاجتماعي. يحدث هذا في ظل غياب إطار قانوني عالمي موحد، وفي ظل تأخر تشريعات الحماية الرقمية عن مواكبة تطور الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة.

وهنا تبرز مسؤولية القانون والسياسة:
كيف يمكن إعادة التفكير في الحقوق الرقمية؟
كيف نُوازن بين حرية التعبير والأمن السيبراني؟
كيف نحمي الأطفال الرقميين من الاستغلال، والمواطن الرقمي من التضليل، والمجتمع الرقمي من التشظي والانغلاق؟

الإنسان الرقمي لا يجب أن يكون “تابعًا أزليًا” للتكنولوجيا، بل فاعلاً ناقدًا، مسلحًا بالوعي، ومنخرطًا في معركة استرجاع الذات. علينا أن ننتقل من منطق “الاستهلاك التكنولوجي” إلى منطق “المواطنة الرقمية”، التي تتأسس على الحق في المعرفة، والحماية، والمشاركة، والتمرد على الاستلاب الخوارزمي.

إنها ليست دعوة إلى العزلة، بل إلى التموقع الواعي.
فالإنسان الرقمي، إن لم يَسُد، سَيُستَبدَل.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *