افتتاحية مجلة 24 : التكلس الفكري والعمى النضالي
في كل مرة أضع بعض الأفكار للنقاش العمومي، يفاجئني أشخاص من بقايا جدار برلين (تارة يسبوننني وأخرى يعيرونني بأسوء نعوت التزلف للمخزن).
في الواقع لم ألمس في هؤلاء نضجا فكريا أو سياسيا. وما لا يأخذني فيه الشك أنهم عالة اجتماعية، ولم يسبق لهم أن ناضلوا من أجل بسطاء، ليحصلوا لهم على مكاسب وحقوق، ضاعت منهم بسبب التعنت الأعمى لأشخاص ظنوا خطأ، أن وظائفهم لا تصلح لخدمة الناس، والتي يتقاضون عنها أجرا من المالية العمومية، بل يعتقدون وبسذاجة أن الناس هم الذي وضعوا لخدمتهم وانتظارهم وقتما يحلو لهم المجيء إلى مكاتبهم.
سنوات النضال علمتني أن الديمقراطية والتربية عليها، هي انجازات صغيرة تتوج في نهاية المطاف بانتزاع خدمة أو حق مع وبجانب الناس الذين ذهبنا إلى مساندتهم والأخذ بيدهم.
لكن الذين يجيدون ترديد الشعارات ويحفظون عن ظهر قلب بعض عناوين الكتب وأسماء ثوار قدامى، تستهويهم حلقات النقاش الطويل لتحليل واقع ليس بالملموس ولا يرى بالعين المجردة بل يتعاملون مع واقع افتراضي ومتخيل، ولا يتورعون في إصدار أحكام القيمة على الكيفية التي يتوقعون أن يسير التاريخ وفقها، وهم يعتقدون أنهم حراس الجماهير الشعبية التي يتحدثون باسمها.
يلتقي هذا الصنف، بجماعات الذكر والتراتيل، وينامون ويستيقظون على خطابات لغوية ساكنة، لا تتأثر بالمتغيرات الجارية في عالم الناس الأحياء الذين يسعون على الدوام، لكسب الأرزاق وانتزاع لقمة العيش بصراعات يومية مريرة.
وفي هذه التقاطعات، التي يحكمها الصراع، يجد النضال مشروعيته من أجل، الدفع بالآمال والطموحات، لتنتج واقعا جديدا، يحظى فيه الناس ببعض فضائل العدالة والكرامة. أي أننا لا ننشغل كثيرا بتفسير الظواهر من ظلم وقهر اجتماعيين بل تغيير هذا الواقع وتحويل مضامينه السلبية إلى مكاسب تسعد الناس البسطاء.
لكن بعض يسارنا، تأخذه نزعات الاصطفاف الدائم مع مجموعات الرفض الاجتماعي، ويسعى لاتخاذها رهائن مؤقتة لساعات التفاوض عن المواقع أو المكاسب الأنانية.
النضال العمالي الأصيل وحده يعلمنا ثقافة وأساليب جديدة في الحالات الحرجة، يوم يشتد الصراع مع رب العمل، كيف نتحلى بالمرونة الكافية في التفاوض وأن نضع مصلحة العامل فوق كل اعتبار، وبأن لا نضيع فرص العمل أو نساهم في إغلاق مصادر الرزق.
في الثقافة العمالية، نتعلم أن التفاوض على تحسين شروط وظروف العمل وصيانة المكاسب وانتزاع مطالب مادية ومعنوية، لصالح العمال أمور لا تقبل الجدال العقيم، ولا تقبل التشنج وركوب العواطف، بل الأهم في سياق المعركة هو التأثير الإيجابي في حياة العمال ضمن علاقات العمل والعودة للاشتغال ضمن مناخ اجتماعي يحقق الاستقرار الوظيفي. ويستمر النضال اليومي باستمرار الحياة.
لكن الأشخاص الذين لم يعيشوا تجارب ميدانية، تأخذهم دوما نزعات الحنين للركون في ساعات الغيوبة للتلذذ بالأناشيد القديمة وانتصارات أبطال قدامى وتمجيد ثورات من بلدان بعيدة ولا يحسنون منها استخراج الخلاصات التي تفيد في تجاذبات هذا اليومي العنيد. ويصنعون لأنفسهم أعداء وخصوما من ورق ويتصارعون معها في المقاهي والجلسات الحميمة لنقاشات مقرفة لا تنتج خبزا ولا تحيي عظام الفقراء. واليوم تمكنهم التكنولوجيا الرقمية والمواقع الاجتماعية من فضاءات مغلقة ومن جداريات زرقاء، يعيدون فيها إنتاج خرافات لا تسمن ولا تغني من جوع.