أزلو محمد يكتب: الفساد المالي وتهريب الأموال “حينما تصطدم الأوطان بأطماع أبنائها

أزلو محمد يكتب: الفساد المالي وتهريب الأموال “حينما تصطدم الأوطان بأطماع أبنائها

 

في زوايا مظلمة من الاقتصاد العالمي، حيث تختلط المصالح بالمؤامرات، تطفو على السطح قضايا تُزلزل أركان المؤسسات، وتقوّض ثقة الشعوب في أنظمتها. وفي المغرب، لم يكن الخبر عن فتح مكتب الصرف تحقيقاً في واحدة من أخطر قضايا تبييض الأموال وتهريب العملة بالخارج مجرد تفصيل عابر، بل هو صفعة مدوية تكشف عن وجه آخر لمعضلة الفساد التي تنخر عظام المجتمعات.

في التفاصيل التي أوردتها يومية “الصباح”، يبدو أن شبكة معقدة من المسؤولين المغاربة – ومن بينهم مزدوجو الجنسية – قد تورطت في عمليات تبييض أموال منظمة. هؤلاء استغلوا ثغرات قانونية وهياكل مالية غامضة لتمرير أموال ضخمة، وتحويلها إلى عقارات فاخرة وحسابات بنكية في الخارج، بعيداً عن أعين الرقابة. هذا النوع من النشاط، الذي ينطوي على خرق واضح للقوانين المغربية، لا يُعدّ مجرد خيانة للوطن، بل هو تلاعب بمصير أجيال كاملة، إذ يُسهم في تفاقم الفقر، ويضعف التنمية الاقتصادية، ويزيد من حدة التفاوت الاجتماعي.

ما يثير القلق أكثر هو أن المتورطين استخدموا هويات أجنبية مزورة أو معدلة، ما صعّب تتبع تحركاتهم المالية. ومن خلال قنوات معقدة تشمل شركات وهمية أو حتى حقيقية، قاموا بضخ أموالهم في أسواق مالية أوروبية وكندية وخليجية. هذا السلوك لا يعكس فقط ذكاءً إجرامياً، بل يكشف عن ثغرات في المنظومة المالية الدولية التي تتطلب مزيداً من التعاون بين الدول لمحاصرة هذه الظاهرة.

لم تقتصر التحقيقات على الأموال التقليدية، بل امتدت لتشمل العملات الرقمية، خاصة “البيتكوين”، التي أصبحت أداة مثالية للمجرمين بسبب صعوبة تتبعها. وفقاً للمصادر ذاتها، اعترف بعض المتورطين في تهريب العملات الرقمية بأنهم ساعدوا مسؤولين مغاربة في إخفاء هوياتهم أثناء تنفيذ التحويلات المالية. هذه الشهادات تُبرز كيف أصبحت التكنولوجيا الحديثة، التي كان يُفترض أن تكون وسيلة لتعزيز الشفافية، سلاحاً ذا حدين في أيدي من يعبثون بالأنظمة المالية.

التحقيقات، التي تُجرى بسرية تامة، أظهرت حتى الآن تورط عشرة أشخاص على الأقل. وتشير التقديرات الأولية إلى أن المبالغ التي تم تهريبها تصل إلى مليارات الدراهم، في صورة معاملات مالية مشبوهة. وتعتمد السلطات المغربية في هذه القضية على الاتفاقية متعددة الأطراف لتبادل المعلومات المالية تلقائياً، التي انضم إليها المغرب مؤخراً. هذه الاتفاقية، التي تهدف إلى تعزيز الشفافية المالية، تمنح السلطات أداة قوية لتتبع الحسابات والاستثمارات الخارجية للمغاربة.

لكن، رغم هذا التعاون الدولي، يبقى السؤال مطروحاً: هل يكفي مجرد الكشف عن المتورطين لردع الآخرين عن ارتكاب جرائم مشابهة؟ أم أن الأمر يتطلب إصلاحات جذرية، تبدأ من سدّ الثغرات القانونية وتطوير أنظمة الرقابة، وصولاً إلى تعزيز ثقافة النزاهة والشفافية داخل المؤسسات؟

حينما يسرق مسؤول أموالاً عامة، فإنه لا يسرق من خزينة الدولة فقط، بل يسرق من أحلام الفقراء، ومن مشاريع البنية التحتية، ومن فرص التعليم والصحة. إن هذا النوع من الجرائم لا يُقاس فقط بحجم الأموال المفقودة، بل بآثارها الاجتماعية والاقتصادية العميقة. فكل درهم يُهرّب إلى الخارج يعني مدرسة لم تُبنَ، ومستشفى لم يُجهَّز، ووظيفة لم تُخلق.

والأمر الأكثر إيلاماً هو أن هذه الجرائم تُرتكب من قبل أناس كان يُفترض بهم أن يكونوا حماةً للوطن وخُداماً للصالح العام. لكنهم، بفضل أطماعهم التي لا تعرف حدوداً، تحوّلوا إلى خونة يتاجرون بمستقبل وطنهم.

بينما تنتظر الأوساط المغربية استكمال التحقيقات، يتساءل المواطنون عن الإجراءات التي ستتخذ لتجنب تكرار مثل هذه الفضائح. هل سيُحاسب المتورطون بصرامة تجعل منهم عبرة لغيرهم؟ أم أن هذه القضية، كغيرها، ستنتهي في دوامة النسيان؟

إن مواجهة هذه التحديات تتطلب نهجاً شاملاً يجمع بين إصلاح القوانين، وتعزيز التعاون الدولي، ومكافحة الفساد داخل المؤسسات، والأهم من ذلك، غرس القيم الأخلاقية في النشء. فالمشكلة ليست فقط في الثغرات القانونية، بل في النفوس التي سمحت لنفسها بخيانة الأمانة.

إن ما يحدث اليوم يكشف عن صراع أبدي بين الطمع والضمير. وبينما تسعى السلطات إلى كشف الحقيقة ومحاسبة المتورطين، يبقى الأمل معقوداً على وعي الشعب وقوة القانون. فالأوطان لا تُبنى بالأموال المهربة، بل بعرق الشرفاء وإخلاصهم. وفي نهاية المطاف، سيبقى التاريخ شاهداً على من خانوا، وعلى من وقفوا في وجههم ليحموا شرف الوطن وكرامته.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *