أزلو محمد يكتب: أوجاع المخيمات وحقائق النزاع الصحراوي “مأساة إنسانية وصراع بلا أفق”

تُروى الحكايات عادةً لتُبقي الأمل حيًا، ولكن في جنوب غرب الجزائر، هناك حكاية صامتة تُروى على جبين الأرض الجافة وفي قلوب أناسٍ أرهقتهم الحياة بين ركام الخيام وصراخ الرياح. إنها مأساة المحتجزين في مخيمات تندوف، حيث تسود حياة بلا أفق ولا قرار، بل هي مجرد انتظارٍ يتكرر كل يوم تحت وطأة نزاعٍ عمره نصف قرن.
في تقريرٍ مطول نشرته مجلة “جون أفريك” الفرنسية، كشف الكاتب الموريتاني مبارك ولد بيروك عن الواقع المأساوي الذي يعيشه الصحراويون في هذه المخيمات، حيث الحياة أقرب إلى صورة جامدة تغلفها الغبار، وحيث لا مكان للأحلام، بل فقط صمت ثقيل تتخلله أصوات الانفجارات البعيدة، التي تذكرهم بأنهم في قلب صراعٍ لا يخدم سوى مصالح خارجية.
يعيش الجيل الجديد في مخيمات تندوف حياةً تفتقر إلى أبسط مقومات الكرامة الإنسانية. وُلد هؤلاء الأطفال وسط عالمٍ من الخيام الطينية، دون أن تُتاح لهم فرصة الاختيار أو المشاركة في صنع القرار. إنهم أسرى واقعٍ فرض عليهم، حيث المياه تُوزّع عبر الصهاريج، والمساعدات الدولية هي المصدر الوحيد للبقاء، بينما تتلاشى الأحلام الشخصية أمام غياب الأفق السياسي والاجتماعي.
وصفت المجلة هذه الحياة بأنها “رتابة قاتلة”، حيث الشباب يعيشون بلا طموح ولا هدف سوى البقاء على قيد الحياة. وقد نقل التقرير شهادة شابة زارت موريتانيا، قالت فيها بمرارة: “لا أحد هنا يتابع قناة البوليساريو، فقط الشيوخ من لا يزالون يؤمنون بدولة مستقبلية”، في إشارة واضحة إلى الهوة التي تفصل بين أجيال اللاجئين، وإلى فقدان الجيل الجديد لأي إيمان بمستقبل يُبنى على أوهام القيادة الحالية.
أشار التقرير إلى أن المخيمات تخضع لسيطرة قيادة وصفها بـ”الاستبدادية”، حيث تفرض ميليشيات البوليساريو رقابة صارمة على السكان، وتتحكم في تنقلاتهم وحياتهم اليومية. وفي الوقت الذي يعاني فيه المحتجزون من شظف العيش، يعيش قادة البوليساريو حياة مختلفة تمامًا، متنقلين بين العواصم، مستغلين النفوذ والقبلية لتحقيق مصالحهم الشخصية.
ونقل التقرير شهادة قيادي سابق في البوليساريو، أكد فيها أن مسؤولاً جزائريًا صرح له بوضوح: “لا نصر عسكريًا بعد اليوم ضد المغرب”. هذه العبارة، التي تحمل في طياتها اعترافًا ضمنيًا بفشل المشروع الانفصالي، تعكس تراجع الدعم الجزائري المعلن، وغياب أي استراتيجية حقيقية لتحقيق ما يُطلق عليه “الحلم الصحراوي”.
ترى المجلة أن حلم قيام “دولة صحراوية” بات مجرد شعار يفقد بريقه يومًا بعد يوم. فحتى داخل المخيمات، لم يعد هذا الحلم يؤخذ على محمل الجد، بل إنه تحول إلى مطلب تُردد أصداؤه فقط في أروقة السياسة الدولية، بينما يرزح آلاف الصحراويين تحت وطأة الفقر واليأس.
إن هذا الواقع المأساوي لا يخدم سوى أطراف قليلة، تستفيد من استمرار النزاع لتعزيز أجنداتها السياسية والإقليمية. وبينما تزداد عزلة البوليساريو، يبقى المغرب ثابتًا في موقفه، مؤكدًا أن أقاليمه الجنوبية ليست قابلة للتفاوض، وأن مبادرة الحكم الذاتي المغربية تمثل المخرج الأكثر واقعية لإنهاء هذا النزاع، بما يضمن للصحراويين حقوقهم في تسيير شؤونهم الداخلية تحت السيادة المغربية.
خلص تقرير “جون أفريك” إلى دعوة صريحة للجزائر كي تلعب دورًا بناءً في إنهاء هذا النزاع، بدلًا من دعم كيانٍ انفصالي يفتقر إلى البوصلة والشعبية. إن استمرار هذا الصراع يؤدي فقط إلى تعميق المآسي الإنسانية، ويفتح الباب أمام احتمالات خطيرة، من بينها استغلال الجماعات المسلحة لحالة الفوضى في المنطقة.
إن المصالحة الإقليمية والتنمية المشتركة هما السبيل الوحيد لضمان مستقبل مستقر ومزدهر لشعوب المنطقة. لكن هذا المستقبل لن يتحقق ما دامت القيادة الجزائرية تُصر على دعم مشروعٍ فاشل، وما دام آلاف الصحراويين يُترَكون ليواجهوا مصيرًا قاتمًا بين الخيام وصحراء منسية.
مأساة المحتجزين في مخيمات تندوف ليست مجرد قضية سياسية عابرة، بل هي وصمة إنسانية تقتضي من العالم أن يلتفت إليها بجدية. هؤلاء البشر، الذين حُرموا من حقهم في الحياة الكريمة، يدفعون ثمن نزاعات أكبر منهم، نزاعات تخدم أطرافًا لا تكترث لمعاناتهم.
إنه نداء لكل من يحمل في قلبه ذرة إنسانية: أن ينظر إلى هؤلاء المحتجزين ليس كأرقام في تقارير دولية، بل كأرواح تبحث عن الخلاص. فلا سلام يُبنى على أنقاض الكرامة، ولا عدالة تتحقق في ظل الظلم والصمت.