برنامج يحتضر تحت وطأة النسيان..
على غرار عديد من الأوراش الوطنية الكبرى التي تسهر على إنجازها وتدبير تنفيذها وزارة إعداد التراب الوطني والتعمير والإسكان وسياسة المدينة، نذكر من بينها “برنامج المدن الجديدة”..
لقد تبنى المغرب سياسة المدن الجديدة ابتداء من سنة 2004 في إطار التعمير العملياتي، أي التعمير الفوري والمباشر دون الخضوع إلى القواعد التعميرية التي تقام على تصاميم تحتاج لمدة زمنية تفوق العشرين والخامس والعشرين سنة وما فوق، لتنزيل مشاريع منجزة إنجازا نهائيا. إذ جنح المغرب إلى التعمير العملياتي من أجل إيجاد حلول لمجموعة من العراقيل تشكو منها المدن المغربية، وقد ساهمت هذه التجربة في نهج رؤية جديدة لتدبير المجال الحضري، خلافا لما ظل عليه الأمر طوال حقب طويلة من الزمن، باعتبارها وسيلة للفصل بين المعمرين والأهالي في فترة الاستعمار، إذ كانت آنذاك فضاء لاستقبال السكن الفوضوي غير المنظم وفي أبشع صور الهشاشة والإقصاء والتهميش.
وعمدت بلادنا إلى إقرار تصور جديد، قوامه إعادة تنظيم الفضاءات الحضرية، وخلق ظروف مناسبة للعيش الكريم لكل فئات المجتمع على أسس من التنمية الحضرية التي ترتكز على التخطيط المسبق وتستلهم توصيات وخلاصات الدراسات والمخططات المتعلقة بإعداد المجال، خاصة منها التصميم الوطني لإعداد التراب، وهي وثيقة توجيهية تهدف إلى تقديم رؤية متجانسة للتنمية الترابية من خلال تحديد الخيارات الفورية على المدى البعيد، تبين على مدى 25 سنة الأهداف والتوجهات وخطط التنمية الشاملة، وتوضح الأولويات والاحتياجات. وتم أيضا الاعتماد على الركائز المستوحاة من المخططات التوجيهية للتهيئة العمرانية (حسب القانون 90- 12 المتعلق بالتعمير). وذلك بغرض تجاوز منهجية التدخل السابقة، التي كانت تقتصر فقط على برامج توسعة المدن الموجودة، إلى منظور جديد يتمثل في إحداث مدن متكاملة، وذلك بإنشاء نواة مستقلة وقطب للاستثمار والانتاج في إطار تصور شامل ومندمج، يضمن نموا متناسقا ودائما.
وقد تم وضع برنامج زمني تتطلع به بلادنا إلى إنشاء 15 مدينة جديدة في أفق 2020 لامتصاص النمو السكاني الكبير المرتقب في الوسط الحضري، إذ ستصل نسبة السكان الحضريين إلى 70℅ في أفق سنتنا هاته 2020، وستتطلب مسايرة النمو الديموغرافي والتطوير المرتقب لحاجيات السكن إعداد وتجهيز ما يقل عن 4.500 هكتار من الأراضي كل عام حتى الوصول إلى سنة 2020.
وبعد وضع دراسات وتتبع في التنفيذ، ستظل سنة 2020 هي ختام البرنامج وتطبيق كل أهدافه وتحقيق كل التصورات!!..
وها نحن نعيش سنة 2020 التي حازت حيزا كبيرا في تسطير برنامج يعتمد على دراسات كلها توضح أن في متم السنة الحالية، سيتم إنجاز كلما ما كان متصورا ومخططا له من قبل، ويحتفل المغرب بإنجازاته الوطنية الكبرى في إحداث مدن تخفف من الضغط المتزايد على المدن الكبرى. ونحتفل أيضا بالقضاء على كل الاختلالات العميقة في النسيج العمراني وانعكاساتها السلبية اجتماعية وصحية وإيكولوجية واقتصادية وثقافية… إلخ.
فالواقع يعكس العكس، وبرنامج المدن الجديدة لم يحقق أدنى ما ذكر في الدراسات!!..
فمنذ سنة انطلاق هذا البرنامج، عرف تقدما ملموسا بإحداث مدن جديدة ساهمت في تحسين جودة العيش عند كثير من فئات المجتمع. لكن الوضع بدأ يتغير سنة بعد سنة، وأصبح هذا الورش الوطني الكبير يواجه إكراهات كبيرة في تنزيل أوراش المدن الجديدة. ويتجسد هذا الوضع في التأخر الكبير في استكمال كثير من الأوراش، على مستوى التوازن الحضري، أو تخفيف حدة الضغط السكاني أو تعزيز التجهيزات والمرافق العمومية، أو حتى بالنسبة للآجال المعلنة لتسليم منتوج المشاريع.
رغم الإكراهات، هناك محاولات مشهود لها في تنفيذ هذا البرنامج، قُدمت من طرف رجال تعاقبوا على تدبير شؤون الوزارة الوصية، وبلغ مستوى الأداء بفضل سياسة حكيمة وبأيدي مجهودات موظفين مجتهدين، حُققت نتائج مهمة في إحداث مدن جديدة ك”تامنصورت” بضواحي مراكش التي أُنشئت على مساحة تقدر ب 2.000 هكتار لتأوي 400 ألف نسمة، وتضم 80 ألف وحدة سكنية، وبغلاف مالي يصل إلى 24,5 مليار درهم. ومدينة “تامسنا”، الواقعة قرب الرباط، والتي أُنشئت على عقار يبلغ 840 هكتار لاحتضان 250 ألف نسمة وبناء 54 ألف وحدة سكنية، الكل بميزانية تقدر ب21 مليار درهم. ومدن أخرى ك”الشرافات” بضواحي طنجة ومدينة “لخيايطة” بضواحي الدار البيضاء.
وخلال هذه المرحلة، انتعش سوق الشغل، وجميع المؤشرات المرتبطة بنشاط البناء والعقار، والخدمات ارتفعت.. فمبيعات الإسمنت والحديد والرمال وجميع مواد البناء شهدت نموا ملحوظا طيلة مدة الأشغال…
وعلى حين غرة، تقلد وزراء في حقبة ما بعد مرحلة التوهج، وخلال فترتهم، بدأت سياسة التغافل والنسيان تطول هذا البرنامج، ورويدا رويدا، لم تحقق الأهداف المسطرة في الدراسات والتوصيات، وخالفنا الموعدا مع سنة 2020، إذ أصبح الوضع أقل ما يمكن القول فيه، بأن هذا البرنامج دخل مرحلة الاحتضار تحت وطأة النسيان.
فهناك نقط مهمة يجب الوقوف عليها لتدارك ما تبقى من آمال في إعادة وثيرة التقدم في تنفيذ هذا البرنامج الوطني الكبير الذي يسجل مرحلة هامة في مسلسل التمدن بالمغرب. إلا أن الوضع يحتم إيجاد حلول ملائمة للظرفية الحالية.
وللخروج من هذا الوضع، يجب فتح حوار جاد لتعميق التفكير مع مختلف الفرقاء، ورسم آفاق مستقبلية لتأطير مؤسساتي وتقني أفضل لهذه المشاريع. وكذلك، فإنه من الأجدر اعتماد تحيين المقتضيات القانونية المتوفرة وتوفير العقار اللازم.
ومن جملة التساؤلات التي يجب الإجابة عنها في هذا السياق:
كيف سنتغلب على الإكراهات المتمثلة في:
أولا: ضعف الالتقائية. إشكالية التدبير الحضري؟
ثانيا: المشاكل العقارية؟ ومحدودية الشراكة والقانون؟
كما يجب استحضار آفاق تطوير برنامج المدن الجديدة، باتخاذ إجراءات تقنية وبنيوية استعجالية تداركا للنقص المسجل على مستوى إنجاز التجهيزات الأولية وتقوية الجاذبية، وتوسيع عملية تعبئة العقار العمومي لحل المشاكل العقارية. كما يجب تقوية الإطار القانوني المتعلق بالمدن الجديدة ومراجعة الصيغ التي يتم من خلالها تحديد مضامين الاتفاقيات وشروط الإنجاز وتعهدات التزامات الأطراف المعنية، لتصحيح كل الخطوات المزمع اعتمادها لإنجاح هذا البرنامج وضخ الحياة فيه من جديد.
فيلزم إقرار نمط حكامة ناجعة تكرس تفعيل أسلوب الرقابة الدائمة المنتظمة واعتماد آليات جديدة تتوخى النجاعة والسرعة ومراجعة طريقة عمل الشباك الوحيد. وتعد تقوية التواصل حول المشاريع سواء مع الشركاء أو مع المستفيدين بعقد لقاءات مستمرة ومنظمة مع المعنيين بالأمر لإطلاعهم على سير الأمور.
مجهودات كبيرة بُدلت، وميزانيات رُصدت لإنجاح هذا البرنامج، واليوم يعيش هذا البرنامج في غرفة الإنعاش، ينتظر مسؤولين لهم الشجاعة الكافية، والغيرة الوطنية اللازمة لإنقاذ البرنامج من حالة النسيان، وإذكاء الحياة في مشاريعه تجنبا لمراحل قد تقضي على كل الآمال المتوفرة في هذه اللحظة.
فهذه اللحظة تحتاج إلى قرارات تضمن انسيابه في إنجاز المشاريع وخلق دينامية جديدة واستثنائية وملائمة وإيجابية في تحسين الإنتاج المبتكر والمنفذ من طرف كفاءات يزخر بها قطاع إعداد التراب الوطني والتعمير والإسكان وسياسة المدينة.