المقاربة بالكفايات من الخطاب البيداغوجيّ إلى منهاج التاريخ في التعليم الثانويّ في المغرب

المقاربة بالكفايات من الخطاب البيداغوجيّ إلى منهاج التاريخ في التعليم الثانويّ في المغرب
جمال الدين البوزيدي 

كيف ينبغي أن نقرأ؟ ما هي شروط ومقاييس القراءة الجيدة؟ من سيحكم على قراءة ما بأنها جيدة أو رديئة؟ ؛ بهذه الأسئلة مهد الدكتور عبد الفتاح كيليطو لمداخلته التي كان قد قدمها في مناظرة المنهجية في الأدب و العلوم الإنسانية التي احتضنتها جامعة محمد الخامس أواسط الثمانينيات ؛ منطلقا من مسلمة مفادها أن القارئ يقرأ النص انطلاقا من اهتمامات تخصه أو تخص الجماعة التي ينتمي إليها. القارئ يهدف دائما من خلال قراءته إلى إثبات غرض من الأغراض. بهذا المعنى فإن كل قراءة مغرضة! لذلك يشبه القارئ بقاطع طريق يوناني يدعى ب “بروكست” كان يعذب ضحاياه بطريقة فريدة من نوعها. كان له فراشان: فراش كبير و فراش صغير. فكان يطرح المسافرين الطويلي القامة على الفراش الصغير والمسافرين القصيري القامة على الفراش الكبير. ثم يعمد إلى أرجل الطويلي القامة فيقطعها لأنها تتعدى الفراش الصغير، أما القصيري القامة فكان يجذب أرجلهم و أيديهم حتى يكونوا تماما على مقاس الفراش الكبير. بشيء من المبالغة نستطيع أن نقول إن هذا هو حال القارئ لأي إنتاج فكري؛ القارئ يقطع أجزاء من النص ويجذب إليه أجزاء أخرى حتى تنسجم مع التأويل الذي ” يفرضه” على النص المقروء.
من أجل ذلك؛ أجدني ألج في قراءة مؤلف الدكتور محمد صهود الأخير بنوع من الحذر؛ مؤملا تجنب كل ما من شأنه تحويل قراءتي هاته إلى “عملية بروكستية !!”
يطرح الدكتور صهود منذ البداية مسألة مدى مواكبة الممارسات البيداغوجية للتحولات التي طرأت على الخطاب النظري في علاقته بالاختيارات والتوجهات العامة للنظام التربوي بالمغرب؛ في سياق الانتقال من بيداغوجيا المحتويات إلى بيداغوجيا الأهداف ثم إلى المقاربة بالكفايات؛ متسائلا حول ما إذا كان الأمر يتعلق بسيرورة خطاب أم بسيرورة ممارسة تربوية وبيداغوجية فعلية!
يعلن الدكتور صهود في مدخله الإشكالي عن قناعته المنهجية، وعن نهجه في التعامل مع التراكم البيداغوجي الحاصل على المستوى العالمي إذ يقرر أن: التأصيل النظري تمليه ضرورة تجاوز مرحلة الترجمات، إلى التأطير والتفاعل القائم على حس تاريخي نقدي.

في المستوى الأول من معالجة موضوع الكتاب؛ اهتم المؤلف بوضع المقاربة بالكفايات في سياقها التاريخي العام؛ مقدما في مستهل هذا المحور إضاءة منهجية دقيقة استلهمها مما دعا إليه المفكر إدغار موران من ضرورة تجاوز المعالجة الجزئية للمعارف، واستحضار سياقات إنتاجها؛ و ذلك بتقريره أن ’’كل معرفة تعتمد على معطيات أو معلومات معزولة تظل ناقصة، يجب موضعة المعارف داخل سياقها، لكي يكون لها معنى’’ (إدغار موران: المعارف السبع الضرورية لتربية المستقبل)
لاشك أن هذا التحديد يعد على قدر كبير من الأهمية؛ و يؤشر إلى الدقة المنهجية للمؤلف الذي يتوخى ضمان شروط الاستنبات السليم لمقومات التجديد البيداغوجي في واقعنا التربوي؛ و ذلك بشكل يتلاءم مع خصوصيات هذا الواقع. من أجل ذلك؛ جاء تناول الدكتور صهود للسياق الدولي العام ثم للسياق الوطني؛ إيمانا منه بضرورة تأطير المعلومات ضمن سياقها التاريخي وربط هذا السياق بما سماه الأنظمة الكبرى؛ وعدم الارتهان للنظام الوطني أو الجهوي؛ مقررا أنه: ’’ لا يمكن معالجة موضوع الكفايات دون ربطه بالسياق العام الذي يتطور ضمنه العلم ( البراديغم الجديد للعلم) وهو براديغم التعقيد La Complexité.
في مستوى ثان؛ انتقل المؤلف إلى معالجة الجانب المفاهيمي من خلال رصده لمفهوم الكفاية والمعايير في مختلف الحقول المعرفية؛ قبل الانتقال إلى مجال البيداغوجيا والديدكتيك؛ ممهدا للسؤال الجوهري : ما مكانة الكفاية، باعتبارها مفهوما ومقاربة بيداغوجية، في الوضعيات الخاصة بتدريس التاريخ؟ وهو ما حتم على المؤلف القيام بتحليل الكفايات ضمن منهاج التاريخ ذي الخصوصيات المعرفية والمنهجية والإبيستمولوجية المعتبرة؛ والقيام بطرح بعض الإشكالات الكبرى ذات العلاقة بقضية: الكفايات وتدريس التاريخ؛ من قبيل التساؤل حول كيفية الملاءمة بين تدريس مادة لها خصوصياتها المعرفية والمنهجية والقيمية مع مقاربة أنتجت مفاهيمها وتبلورت في حقول بعيدة عن مختلف المواد الدراسية.
يقرر الدكتور محمد صهود أنه طالما أن الفكر التاريخي لا تنفصل فيه سيرورة التعلم عن منتجه، فإن للمقاربة بالكفايات فائدة منهجية باعتبارها تحيل الى التفكير المنهجي لا الى التلقي السلبي. وفي هذا الصدد يرى بأن الفكر التاريخي يشكل درعا لحماية منهاج مادة التاريخ من الانحرافات الثلاثة التي حذر منها كزافييه روجرز والتي تهدد المناهج الدراسية حاليا:
1 انحراف الصدفية الفارغة؛ من خلال التركيز على السيرورة الفكرية التي تؤدي إلى إنتاج المعرفة.
2. انحراف التنظير؛ من خلال المراهنة على الدور التوجيهي للمدرس في شحذ الفكر المنهجي انطلاقا من وضعيات.
3. انحراف الأداتية من خلال تسلح المتعلم بالفكر النقدي.
وهي الجوانب التي تستدعي إعادة النظر في مناهج تدريس التاريخ.

في السياق ذاته؛ يتساءل المؤلف :
– هل يشكل اعتماد تدريس التاريخ على المقاربة بالكفايات رافعة لتطوير هذا التدريس؟ و في معرض الجواب على هذا السؤال تناول الدكتور صهود مسار التحولات التي طرأت على منهاج التاريخ عبر محطات مراجعة البرامج والمناهج مركزا على محطة تعميم برنامج تكويني لفائدة مدرسي ومدرسات المادة انطلاقا من سنة 2010 تمحور حول تنزيل النموذج الديداكتيكي المقترح من طرف د/ مصطفى حسني الإدريسي.
لم يفوت المؤلف الفرصة لاستعراض جملة من الثغرات والحدود التي طبعت تبني المقاربة بالكفايات في منهاج التاريخ ؛ خصوصا فيما يتعلق بغياب المفهوم المحدد و وضوح النموذج وغموض المفاهيم؛ و هو ما تم استدراكه في الصيغة المنقحة لمنهاج مادة الاجتماعيات بالسلك الابتدائي لموسم 2020-2021.
عقد الدكتور صهود في مستوى ثالث فصلا يوضح أشكال اكتساب الكفايات وتعلمها؛ و هو الشق من موضوع الكتاب الذي يكتسي أهمية بالغة لارتباطه بشكل وثيق بالممارسة الديداكتيكية وبالجوانب العملية والمرتبطة بأجرأة المقاربة في حقل التاريخ؛ حيث انبرى لرصد وتحليل مختلف أشكال بناء الكفاية وشروطها وسيرورتها في الخطاب البيداغوجي العام قبل معالجة المفهوم في منهاج التاريخ.
لقد اتجه المؤلف إلى تحليل المقاربة من خلال نموذجين ينسجمان في رأيه مع الفرضية البنائية من جهة ومع ضرورة استحضار خصوصيات الواقع من جهة أخرى؛ وهما نموذج البنية المعمارية المتدرجة الشلالية، التي اقترحها فيليب جونيير؛ و نموذج البنية الإدماجية من خلال ما قدمه كزافييه روجرز.
بخصوص تناول محور التعلم والاكتساب في مستواه الثاني في منهاج التاريخ، طرح الدكتور صهود ذلك السؤال الحاضر/الغائب، و هو سؤال الوظيفية: لماذا ندرس التاريخ ونتعلمه؟ مما دفع المؤلف إلى استحضار السياق العام والراهن الذي يستدعي: “التفكير في بلورة منهاج للتاريخ يستجيب للظروف الدولية والوطنية الحالية، ويضفي المشروعية على ضرورة العناية بتدريسه” محيلا إلى ما أورده في كتابه الموسوم ب ’’البعد المنهجي والإبيستيمولوجي في المعرفة التاريخية الصادر سنة 2018’’ حول دور الإنسانيات Les Humanités، في تكوين الفرد وفي توازن كينونته ’’؛ ليلتقي في تناغم بديع مع ما طرحه Laurent Alexandre في كتابه ) La guerre des intelligences (octobre 2017 من ضرورة العناية بتعليم التاريخ الذي يعزز التفكير النقدي و التحليلي؛ و هو أمر ضروري من أجل تحقيق فهم أعمق للعالم الذي يعيش فيه المتعلمون ؛ و من أجل البحث عن حلول مبتكرة لمواجهة التحديات المعقدة التي يطرحها الذكاء الاصطناعي أمام المؤسسة التعليمية.
لقد تناول المؤلف في السياق نفسه؛ خصوصية المعرفة التاريخية العالمة والمدرسية ووظائف تدريس التاريخ وتعلمه؛ مستعرضا الوظائف الغريزية و المعرفية و التأويلية و تلك المرتبطة بتنمية قيم المواطنة.
وفي سياق آخر عالج المؤلف الوضعية المشكلة في منهاج التاريخ، وقدم نماذج دولية لمنهاج التاريخ وفق المقاربة بالكفايات قبل أن يعرض كفايات مادة التاريخ بالمنهاج المغربي بالسلكين، مع إدراج جملة من الملاحظات التحليلية والنقدية. كما قدم نموذجا مقترحا لكفاية في التاريخ وكيفية اكتسابها، محيلا إلى مؤلفيه السابقين:
● التحقيب التاريخي إسهام في التأصيل المنهجي و الابيستيمولوجي، الرباط نت 2016.
● تعلم التحقيب التاريخي: استيعاب نمذج ديداكتيكي وأجرأته، أيديسيون بلو، البيضاء 2020.

خصص الدكتور محمد صهود الفصل الأخير من مؤلفه للتقويم و أشكاله منظورا إليه كمدخل لإصلاح المنظومة التربوية برمتها. و صدر المؤلف هذا الفصل بمقتطف من كتاب Gérard De Vecchi الموسوم ب : Evaluer sans dévaluer ليحمل دلالة عميقة ؛ و ليختزل في جانب كبير إشكالية التقويم في ممارساتنا البيداغوجية وداخل فصولنا الدراسية. و قد انبرى المؤلف في هذا الفصل للجواب عن تساؤله حول مدى إمكانية الحديث عن التحول والاستمرارية بين بيداغوجيا الأهداف وبين المقاربة بالكفايات في موضوع تقويم الكفاية؛ و بقي وفيا لنفس النهج الذي تبناه في الفصول السابقة بالانطلاق من الخطاب البيداغوجي العام إلى تخصيص الحديث عن تقويم الكفايات في مادة التاريخ؛ بحيث كان المؤلف موفقا في أن يجمع بين ثنايا هذا الفصل المتعلق بالتقويم؛ بدقة و تركيز؛ ما تفرق بخصوصه في مراجع شتى؛ مبديا حرصه الشديد على إبراز الجوانب المضيئة في منهاج التاريخ فيما يتعلق بالتقويم؛ دون أن يثنيه ذلك عن الوقوف على الثغرات و آفاق التطوير؛ و في هذا الصدد انفتح المؤلف على خلاصات أطروحة الدكتوراه التي ناقشها الأستاذ عبد الفتاح هشمي بكلية الآداب و العلوم الإنسانية بفاس سنة 2020؛ التي كان عضوا في لجنة مناقشتها؛ كما عرج على تجربة قامت بها جمعية (Clio 92) الإيطالية التي بادرت إلى بلورة تصور لكيفية تقويم المعارف والكفايات من خلال إعداد حقيبة تقويمية Port folio؛ و قدم أيضا نموذجا لتقويم كفاية التحقيب التاريخي كنموذج محيلا من أجل التوسع إلى المؤلف المشترك الذي أشرف عليه تحت عنوان: “تعلم التحقيب التاريخي ؛ استيعاب نموذج ديدكتيكي و أجرأته الصادر سنة 2020.
أما خاتمة الكتاب فقد كانت عودا على بدء؛ حيث بسط المؤلف فيها الملاحظات العامة والخلاصات الأساس التي انتهى اليها في معالجته للموضوع.
الكتاب أخيرا؛ يقع في 239 صفحة من القطع المتوسط؛ وزينت غلافه صورة مليئة بالإيحاءات لجبل الثلج العائم؛ ضمنه المؤلف فهرسة للأشكال و الخطاطات و الجداول و المفاهيم المعتمدة في الكتاب؛ إضافة إلى لائحة بيبليوغرافية تشهد على جدية تعاطيه مع الموضوع و أربعة ملاحق؛ وهو سفر فكري ماتع لا غنى عنه لكل مهتم بقضايا تجديد المنهاج الدراسي عموما؛ و منهاج التاريخ في المغرب على وجه الخصوص؛ و لكل من يسعى إلى الارتقاء بالممارسة البيداغوجية الواعية و إلى التأصيل للفعل الديدكتيكي الجاد؛ خصوصا و أن الدكتور صهود يعد من العارفين بالمتطلبات المنهجية لدرس التاريخ بالمغرب؛ ينخرط في التأليف بعشق؛ و يكتب برشاقة لغوية و صرامة منهجية قل نظيرها.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *