عين على أزمة الرباط ومدريد
ما حدث من نزوج أو هروب جماعي بشكل غير مسبوق نحو ثغر سبتة المحتلة، بعد تراجع الأمن المغربي عقب تعليق التعاون الأمني مع إسبانيا، هو مشهد قد يدينـه البعض وقد يتقبله البعض الآخر، وقد يتفاعل معه البعض الثالث إيجابا، خاصة الفئات الحالمة بالهجرة السرية نحو سبتة المحتلة ومن خلالها نحوإسبانيا وبلدان الجوار الأوربي، لكن وبعيدا عن لغة العواطف الجياشة والمواقف الغارقة في الحماسة، يصعب فهم أو تفهم الوضع القائم، دون ربطه بسياقه العام، وهو سياق تختزل صوره فيما وصلت إليه العلاقات الدبلوماسية بين المغرب وإسبانيا من خلاف وتوتر وتصعيد، ليس فقط بعد تورط مدريد في فضيحة”بن بطوش”، بل ومنذ لجـوء المغرب إلى خيار ترسيم حدوده البحريـة، وخاصة بعد الاعتراف الأمريكي الصريح بمغربية الصحــراء، وما حصده المغرب عقب ذلك من مكاسب دبلوماسية مرتبطة بدبلوماسية القنصليات ومن نجاحات ترابية وتنموية واستراتيجية، قوت من قدراته كقوة إفريقية لايمكن أن ينكرها إلا منكر، وكلها تحولات ونجاحات، أزعجت وتــزعج الجيران الشماليين، بعد أن نجحت الرباط في سحب البساط من تحت أقدامهم، ولم يعد لهم أي تأثيـر أو إشعاع في المنطقة وخاصة في العمق الإفريقي، في وقت تعززت فيه قدرات ومواقف المغرب برهانه على حلفـاء خارج الصرح الأوربـي من حجم الولايات المتحدة وبريطانيا الخارجة من البيت الأوربي وبلدان الخليج وغيرها.
كما أن الانزعاج الإسباني له امتدادات أخـرى مرتبطة بالوضع المقلق لثغري سبتة ومليليةمنذ ما يزيد عن السنة، بعد ما أقدمت السلطات المغربية على إغلاق المعبرين الحدوديين في سياق الإجراءات الوقائية والاحترازية ذات الصلة بجائحة كورونا، مما شكل ضربة موجعة لاقتصاد المدينتين الذي يقوم على التهريب المعيشي، وللاقتصاد الإسباني الذي اعتاد منذ سنوات تصريف منتجاته التجارية نحو المغرب عبر المعبرين الحدوديين، بكل ما لذلك من تداعيات مباشرة على الاقتصاد الوطني، وكلها متغيرات من ضمن أخرى، تشكل مرآة عاكسة لسياسة مغربية حاملة لأبعاد ودلالات اقتصادية وتنموية وأمنية واستراتيجية، قوت قدرات المملكة على مستوى الحوض المتوسطي عبر ميناء “طنجة المتوسط” الذي تحول إلى واحد من أكبر المعالم المينائية بالبحر الأبيض المتوسط وإفريقيا، والذي سيتعزز بميناء “الناظور غرب المتوسط”، بكل ما لذلك من خنق تجاري للمدينتين المحتلتين ومن تداعيات مباشرة على الاقتصاد الاسباني، موازاة مع الرهان على تحويل الواجهة الأطلسية إلى وجهة تجارية وتنموية، من خلال الانخراط في مشاريع استراتيجية مرتبطة ببنـاء موانئ “الداخلة الأطلسي” و”امهيريز” و”الكويرة “، في ظل رؤية استشرافية متبصرة تروم تعزيز قدارت المغرب الأطلسي والإفريقي.
وبالعودة إلى النزوح الجماعي الذي أسال الكثير من المداد، وأثار زوبعة إعلامية امتد صداها إلى الاتحاد الأوربي، وعمق بؤرة الأزمة الدبلوماسية الصامتة بين البلدين بعد إقدام المغرب على استدعاء سفيرته في مدريد في إطار التشاور عقب الاستدعاء العاجل للسفيرة المغربية من قبل الخارجية الإسبانية، وبقدر ما نتأسف على حالنا ونحن نرى أطفالنا الصغار الذين يفترض أن يكونوا في المدارس، وهم يركبـون أمواج الخطر بحثا عن حلم خادع لن يجدوه خارج الأحضان، بقـدر ما نرى أن الخطوة التي أقدمت عليها الرباط هي خير رد على مؤامرة “محمد بن بطوش” التي كشفت عن النوايا الحقيقية لإسبانيا وعرت على ما تدعيه من حقوق وعدالة وقضاء مستقل ومن قيم أوربيـة مشتركة، وهذه الخطـوة على الرغم مما حملته من مشاهد مثيرة للقلق، ما هي إلا ورقـة من ضمن أوراق كثيرة بيد المغرب يمكن استثمارها في الوقت المناسب، للرد على دبلوماسية الابتزاز التي وصلت حد الطعن، بعد القبول باستقبال زعيم الانفصاليين على أراضيها بهوية مزورة ودون أن اعتبار لمبادئ حسن الجوار ولا لمشاعر المغاربة، بل ودون أن تكلف نفسها حتى عناء “الإخبـار”.
ما قامت به الجارة الشمالية من تصرف متهور وهي تستقبل “محمد بن بطوش” على أراضيها دون تقدير تداعيات ذلك على مستقبل العلاقة بين الرباط ومدريد، يضعنا أمام دبلوماسية إسبانية تتعامل مع المغرب وفق ما تشتهيه “سفينة مصالحها”، فمن جهة، تراهن على التعاون الأمني والاستخباراتي مع الرباط في قضايا الهجرة السرية والإرهاب والجرائم العابرة للحدود، وعلى الاستفادة من ثمار الشراكة الرابطة بين المغرب والاتحاد الأوربي في مجال الفلاحة والصيد البحري، وفي نفس الآن تصر على سياسة المناورة والمؤامرة والعداء “الصامت” للمغرب ولوحدته الترابية، بميلها إلى من يتبنى أطروحة أوهام الانفصال، وهذه الازدواجية في المواقف، لم يعد ممكنا للمغرب القبول بها أو التطبيع معها، بعدما نجح في صمت في تغيير موازين اللعبة لصالحهبنجاعة وتبصر، بشكل عزز المكانة الاقتصادية وقوى القدرات الأمنية والاستراتيجية، ودعم الوحدة الترابية التي استعملت طيلة عقود لإشهار بطاقة الضغط والابتزاز في وجه المغرب.
إذا ما تأملنا في صور الأمواج البشرية الغفيرة التي وصلت إلى سواحل سبتة بالأساس في يوم واحد، وما أحدثه ذلك من تداعيات أمنية وسياسية ودبلوماسية وصل صداها إلى الاتحاد الأوربي، يعكس حجم المجهودات التي يبدلها المغرب آناء الليل وأطراف النهار، في سبيل حماية إسبانيا وبلدان الاتحاد الأوربي من جائحة الهجرة غير النظامية، بكل ما يتطلبه ذلك من موارد بشرية ومادية ولوجستية، حتى تعيش أوربا في أمن وسلام واستقرار، ويمكن أن نتصور حجم الكارثة الإنسانية والأمنية التي ستقع، إذا ما تراجعت القوات الأمنية إلى الخلف وتركت الأبواب مفتوحة أمام الحالمين بالهجرة السرية نحو إسبانيا وأوربـا، وفي ظل تهور سياسة الجارة الشمالية وقصور رؤيتها، واستحضارا للدور الإقليمي الذي بات يضطلع به المغرب خاصة في العمق الإفريقي، لم يعد مسموحا لإسبانيا و باقي بلدان الاتحاد الأوربي أن تتعامل مع المغرب كدركي يتولى حراسة الحدود لحماية أمن واستقرار أوربـا، ونرى في هذا الإطار، أن التحرك المغربي، لم يأت من باب رد الفعل أو الحماسة المفرطة، بل هو محاولة متبصرة، لإعادة ترتيب الأوراق مع إسبانيا والاتحاد الأوربي، بما يضمن إعادة صياغة علاقات استراتيجية متوازنـة مبنية على الاحترام المتداول وحسن الجـوار والتعاون المشترك وفق قاعدة “رابح .. رابح”، تقطع الطريق أمام كل مشاهد المساومة والابتزاز والاستفزاز.
وإسبانيا بالأساس التي ورطت نفسها أو تم توريطها في فضيحة “بن بطوش”، تكون قد حشرت أنفها في مؤامرة رخيصة، مست بصورتها على المستويين الأوربي والدولي، وأساءت لسمعتها كما أساءت للقيم التي بني عليها الاتحاد الأوربي، وضحت بعلاقاتها الاستراتيجية مع شريك وصديق استراتيجي من حجم المغرب، مقابل الرهان الخاسر على “بن بطوش”/ “ابراهيم غالي” الملاحق من قبل القضاء الإسباني، ومن خلاله على من ينتـج دبلوماسية التهور والبؤس والانحطاط في الجارة الشرقية، ولابد لها من تصحيح الصـورة والعودة إلى الرشد، وأن تدرك أن المغرب بات أكبر من أن يلعب دور “الدركي” وأكبر من أية مؤامرة إجرامية من حجم فضيحة “بن بطوش”، وأن تفهم أو تستوعب أن المغرب سحب من تحتها البساط وهي لا تـدري، وبات قوة إقليمية صاعدة ذات إشعاع إفريقي وعربي وازن، وليس أمامها اليوم، إلا العودة إلى جادة الصـواب، بل وأن تعي كل الوعي أن المغرب يريدها شراكة استراتيجية متكاملة اقتصادية واجتماعية وثقافية ورياضية وأمنية واستخباراتية وعسكرية وعلمية وغيرها، يسود فيها الاحترام وتصان فيها الكرامة وتراعى فيها قيم ومبادئ حسن الجـوار، غير قابلة للتفكيك أو الفصل أو الانتقـاء، وإلا فالرباط لها شركاؤها وحلفاؤها، ولها أيضا أوراقا أخـرى مستعدة لإشهارها في الوقت المناسـب، ما لم تكف مدريد عن ممارسة عادتها أو عاداتها القديمة، وإذا كان المغرب بات اليوم يقارع ويجابه الكبار، فهذا التحول الاستراتيجي ما كان له أن يحدث، لولا الدبلوماسية الناجعة التي يقودها الملك “محمد السادس” بصمت وتبصر ورصانة، والتي راهنت طيلة عقدين من الزمن على توسيع قاعدة الشركاء والحلفاء والأصدقاء، موازاة مع الرهان على مواصلة مسيرة الإصلاح والتحديث والتنمية، وعلى بناء علاقات اقتصادية استراتيجية مع الأشقاء والأصدقاء، مما خلص المغرب من جائحة التبعية لبلدان الجوار الأوربي وما تنتجه من مساومات رخيصة ومن ابتزازات خفية ومعلنة، ومنح الرباط ما يكفي من الثقة والقوة للمواجهة والمجابهة والتحدي.
ونحن ندلي بهذه المعطيات، ليس هدفنا التبرير أو شرعنة ما حصل من انفلات أمني، لا من جانب القوات الأمنية المغربية التي تراجعت إلى الخلـف ولا من جهة نظيرتها في سبتة التي تعاملت مع التدفقات البشرية بنوع من التراخي وانعدام الحزم، ولكن في ذات الآن، نـرى أن المغرب يحتفظ بكامل حقوقه في الدفاع عن وحدة أراضيه ومصالحه الاستراتيجية العليا بالطرق التي يراها ممكنة ومتاحة وميسـرة، وفي هذا الصدد، قد يقــول قائل أن الدبلوماسية المغربية بما راكمته من نجاعة وخبرات ومكاسب، كان بإمكانها اللجوء إلى خيار آخر للرد على التهـور الإسباني، بـدل المجازفة بالدفــع بمواطنين مغاربة جلهم أطفال أبرياء قاصرين وشبابا يافعيـن للهجرة نحو المجهول، وهو رأي يمكن القبـول به من الناحية المبدئيـة، لكن واعتبـارا لجسامة الفعل الذي أقدمت عليه إسبانيا وهي تستقبل من يحمل السلاح في وجه الوطن ويتبنى شعـار الانفصال، وبناء على ما شكله هذا الفعل العدائي من طعنة للمغرب من الخلف دون مراعاة مبادئ حسن الجــوار وما يجمع البلدين من علاقات تاريخية واقتصادية وأمنية واستراتيجية، كان من الضروري أن يتحرك المغرب لكبح جماح الاستفزاز الإسباني، فكان استعمال ورقة الهجرة السرية رغم آثارها الجانبية المقلقة، وإشهار هذه الورقـة المؤثـرة في هذه الظرفية الخاصة والاستثنائية التي تمـر منها العلاقات بين الرباط ومدريــد، تحكمت فيه الرغبة في بعث عدة رسائل ، منها:
– حساسية ملف الهجرة غير النظامية على أمن واستقرار الاتحاد الأوربي وإسبانيا بشكل خـاص.
– كون الملف الأمني والاستخباراتي المرتبط بقضايا الهجرة والإرهاب، يشكل عصب حياة العلاقات المغربية الأوربية شكل عام.
– إبراز وزر المعاناة التي يتحملها المغرب في مجال محاربة الهجرة السرية نحو الاتحاد الأوربي، في سبيل حماية أمن واستقرار أوربا، مما يفرض دعما ماديا ولوجستيا حقيقيـا على غرار ما تتلقاه تركيـا.
– ممارسة الضغط على إسبانيـا في اتجاه صياغة علاقات مغربية إسبانية جديدة مبنية على الشراكة الشاملة وعلى مبادئ حسن الجوار وعلى التعاون المشترك.
– أن الشراكة الاستراتيجية مع المغرب هي شراكة استراتيجية شاملة غير قابلة للانتقـاء أو التفكيك.
– أن قضية الوحدة الترابية للمملكة، باتت مدخلا لأية علاقة استراتيجية مستقبلية بين المغرب وجواره الأوربي.
– أن موازين اللعبة تغيرت في ظل ما حققه المغرب من مكاسب دبلوماسية واستراتيجية بعد الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء.
– أن زمن “ازدواجية المواقف” انتهى، ومنطق المناورات لم يعد ينفع أو يجدي، والمغرب لم يعد يقبـل بأي انحراف دبلوماسي أو انزلاق مواقفي من شأنه المساس بالمصالح العليا والاستراتيجية للوطن.
– أن المغرب وما حققه من مكاسب جيواستراتيجية، لم يعـد يقبل بلعب دور “الدركي” الذي يحمي الحدود، لتنعم أوربا بالأمن والسكينة والاستقـرار.
من باب المواطنة والدفاع عن المصالح الاستراتيجية العليا للوطن، لايمكن أن نفهم ما حدث إلا في أبعاده الشمولية، التي تعكس تحولا عميقا في مسار الدبلوماسية المغربية التي وصلت إلى مستويات عليا من الجرأة والشجاعة والحزم والتحدي، في اتجاه تحصين الوطن ومصالحه الاستراتيجية، والقطع مع واقع الخضوع والضعف والمهانة والتحقير والتبعية، بما يضمن كسب رهانات الكرامة والسيادة والحرية والعـزة والقوة والتغييـر، فتحريك المغرب لورقة الهجرة السرية، كان كافيا لإحداث أزمة في الاتحاد الأوربي الذي بات مهددا بأمواج محاولي الهجرة السرية، ولتعميق متاعب الحكومة الإسبانية المصابة بلعنـة “بن بطوش”، وهي متاعب، تحضر بعض تفاصيلها في الزيارة الاستفزازية التي قام بها رئيس الحكومة الإسبانية “سانشيز” إلى المدينتين المحتلتين، والتي قوبلت بالمظاهرات والاحتجاجات، وفي إقدام المغرب على استدعاء سفيرته بمدريد من أجل التشاور، فضـلا عن الوضعية الأمنية الحرجة التي باتت عليها المدينتين في ظل تنامي موجات المهاجرين غير النظامين، مما وسع ويوسـع دائرة الأصوات المعارضة لها في الداخل الإسباني.
ومن يلوح بورقة حقـوق الإنسان في مقاربة ما حدث، أو راهـن على استثمار بعض الصور “المفبركة” أو “المشكوك في أمرها” حول جندي يحتضن طفلا رضيعا، ومسعفة تعانق وتحتضن مرشحا للهجرة السرية من إفريقيا جنوب الصحراء، ندعوه إلى توجيـه البوصلة نحو القوات الأمنية الإسبانية في سبتـة التي مارست التجويع والتحقير والإهانة والعنف والإيـداء في حق أشخاص عزل غالبيتهم من الأطفال والشباب، في مساس واضح بحقوق الإنسان ولاتفاقية حقوق الطفل، كما ندعوه إلى استحضار فضيحة أو جريمة “بن بطــوش”، التي انتهكت فيها الحكومة الإسبانيـة لسلطة القانون والقضاء والعدالة، ومست بشكل صريـح وجسيم بكل القيم الحقوقية والديمقراطية التي يقـوم عليها الاتحاد الأوربي، وبكل المرجعيات المرتبطة بحقوق الإنسان والعدالة الجنائيـة، ومن لوح بالورقة الإنسانية، نذكـره أن إسبانيا استقبلت المجرم “بن بطوش” لأسباب إنسانية، في مؤامرة استفزازية ارتقت إلى مستوى “الفضيحة” و”الخطيئة الكبرى”.
وفي ظل هذه الأزمة الحرجة غير المسبوقة بين الرباط ومدريد، ليس أمامنا من خيار أو بديل، سـوى التعبئة الجماعية ورصد الصفوف والالتفـاف حول الدبلوماسية الرصينة التي يقودها بتبصر الملك محمد السـادس، وهي تعبئة باتت أولوية الأولويات، في ظل تكالب أعداء الوطن من الحاسدين والحاقدين والمتربصين والمشوشين، الذين يزعجهم ما يعيشه المغرب من متغيرات اقتصادية وتنموية رائـدة، ومن مكاسب ونجاحات دبلوماسية واستراتيجية وآفاق واعدة، ومن إشعاع إقليمي عربي وإفريقي ودولي، واستقراء لما حدث أو ما قد يحدث، نرى أننا كشعب وملك ودولة ومجتمع وأفراد وجماعات، نعيـش اليوم في مرحلة مفصلية، في سبيل الكرامة والحرية والقوة والسيادة، بما يضمن التخلص من جائحـة التبعية للخارج وما يرتبط بها من إدلال وتحكم وتحقير وإهانـة وابتزازات رخيصة، وهي مرحلة لا تحتاج فقط إلى التعبئة وتوحيد الصفوف، بل وإلى الرهان على قضايا الإصلاح والتحديث والتنمية الشاملة، والارتقاء بواقع الممارسة السياسية والديمقراطية وتحقيق دولة العدالة والمساواة الاجتماعية، بشكل يذيب جليـد أي سياسة مكرسـة للنفور والهروب والرحيل عن أحضان الوطن، أما الجارة إسبانيا، فلابد أن تستعجل التخلص من “لعنة” بن بطوش، وأن تدرك تمام الإدراك أن الجلباب التقليدي لم يعد يتناسب وحجـم المغرب الذي لم يعد يقبل بلعب دور “الدركي” أو “الحارس الأمين” الذي يحمي الحـدود، وتعي كل الوعي أن الدبلوماسية المغربية التي أشهـرت ورقة الهجرة السرية، قادرة على إشهار أوراق أخـرى ربما أشد ضررا وفتكـا، ما لم تعـد مدريد إلى رشدها وتقطـع مع مناوراتها الرخيصـة بشكل لارجعة فيها.
وفي اللحظة التي كانت فيها عدسات الإعلام وعيون المتتبعين، مركزة على ما يجري في مدينة “سبتـة “المحتلة”، وهي تنحني أمام حجيج المهاجرين السريين، نشرت وزارة الخارجية الأمريكية يـوم 17 ماي الجاري، على موقعها الرسمي ضمن خانة الاتفاقيات الدولية للولايات المتحدة الأمريكية، النص الكامل للاتفاقية الثلاثية الأمريكية المغربية والإسرائيلية، بكافة شروطها، وفي ذات اليوم، احتفلت المفوضية الأمريكية بطنجة، بالذكـرى 200 لمنح المغرب واشنطن، أول مفوضية دبلوماسية لها بالعالم، وهذه المبادرة لم تزك فقط، قرار الرئيس الأمريكي السابـق “دونالد ترامب” القاضي بتأييـد السيادة الكاملة للمغرب على الصحراء، بل وشكلت صفعة قويـة وخيبة أمل كبـرى، لأعداء وخصوم الوحدة الترابية الذين طالما تحركوا وناوروا وضغطوا، من أجل دفع الإدارة الأمريكية الجديدة إلى التراجع عن الاتفاقية الثلاثيـة، التي كرست سيادة المغرب على صحرائـه، مما يعني أن العلاقات المغربية الأمريكية هي علاقات استراتيجية وتاريخية، تتجاوز حدود الرؤساء والإدارات المتعاقبة، وهذا من شأنه تقويـة مواقف وقدرات المغرب وتحصين وحدته الترابيــة ومصالحه الاستراتيجية، وإسبانيـا التي لازالت مصرة على عدم تغييـر موقفها حيال قضية الصحراء المغربيـة، فلم يعد موقفها يجدي ولا ابتزازها الرخيص ينفـع، لأن الصحراء في مغربها، والمغرب في صحرائه،وليس أمامها الآن، إلا تحمل عواقب وتداعيات “لعنة” بن بطوش، أما المغاربة، فليس أمامهم إلا المزيد من التعبئـة والوحدة واليقظة، وطرح الخلافات جانبا، والالتفاف حول “بيضة الوطن” من أن تمتد إليها أيـادي الأعداء الحاقدين والحاسدين والمتربصين والمشوشين.
ونوجه رسالة في خاتمة المقال إلى مختلف وسائل الإعلام المغربية بكل ألوانها، من أجل تكريـس الطاقات والقدرات، بما يضمن التصدي لكل مناورات ودسائس الخصوم، وأن تكون خير دعم وخير سند للدبلوماسية المغربية، وهي تقـود معارك شرسة في سبيل صون وحدة الأرض والتراب، وفي رحلة البحث عن علاقات جديدة مع بلدان الاتحاد الأوربي ومع إسبانيا بشكل خاص، مبنيـة على قواعد التـوازن والمسؤولية والاحترام التام للوحدة الترابية للمملكة، والتعاون والحوار والمصالح المشتركة والثقة وحسن الجوار، بعيـدا عن خطاب الأنانية والتعالي والمناورة والمصلحة والاستفـزاز …، وننبه مرة أخرى، أن ما حدث وإن كانت له دلالات دبلوماسية وسيادية واستراتيجية مرتبطة بالمصالح العليا للوطن، فله أيضا أبعادا اجتماعية وإنسانية وتنموية، مكرسة لمشاعر الغضب والرفض والنفور والهروب، تستدعي ليس فقط التأمل والتمعن، بل وتدخلات عاجلة وناجعة ومتبصـرة …