الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية: من ربح القرار الأممي إلى معركة التنزيل الدستوري والسياسي
الدكتور المصطفى القاسمي
استاذ القانون الدستوري والعلوم السياسية.
استاذ القانون الدستوري والعلوم السياسية.
يمثل مقترح الحكم الذاتي الذي تقدمت به المملكة المغربية في عام 2007، لتسوية النزاع الإقليمي حول الصحراء، نقطة تحول مفصلية في مسار القضية. فبعد عقود من الجمود، نجح المقترح في اكتساب شرعية دولية متزايدة، تجسدت في سلسلة من قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، التي وصفت المبادرة بأنها “جدية وذات مصداقية” .
هذا الاعتراف الأممي، الذي بلغ ذروته في قرارات مثل القرار 2797 (2025)، يمثل “ربحاً” دبلوماسياً حاسماً، حيث نقل ثقل التسوية من خيار الاستفتاء غير القابل للتطبيق إلى خيار الحل السياسي الواقعي والقابل للتنفيذ. ومع ذلك، فإن هذا الانتصار على المستوى الدولي يفتح الباب أمام معركة داخلية أكثر تعقيداً، تتمثل في التنزيل الدستوري والسياسي لهذا المقترح ضمن البنية القانونية والمؤسساتية للدولة المغربية.
إن التحدي الأكاديمي والسياسي المطروح اليوم على أساتذة القانون الدستوري والعلوم السياسية في المغرب، يكمن في تحليل كيفية دمج هذا النظام الخاص للحكم الذاتي ضمن إطار الدولة الموحدة، مع الحفاظ على السيادة الوطنية، وهو ما يتطلب هندسة دستورية دقيقة وتفكيراً استراتيجياً في آليات الحكامة الترابية.
أولاً: الأطراف والحدود
لقد شكلت المبادرة المغربية للحكم الذاتي، منذ تقديمها، إطاراً مرجعياً لجهود الأمم المتحدة الرامية إلى إيجاد حل سياسي دائم ومقبول للطرفين. وقد رسخت قرارات مجلس الأمن، عاماً بعد عام، ثلاثة مرتكزات أساسية:
1. تحديد الأطراف وسقف التفاوض
حدد قرار مجلس الأمن، تحت إشراف الأمم المتحدة، الأطراف المعنية بالمفاوضات بوضوح: المغرب، وجبهة البوليساريو، والجزائر، وموريتانيا .
يعد إشراك الجزائر كطرف رئيسي في العملية السياسية مطلباً دولياً متزايداً، نظراً لدورها المحوري في النزاع.
أما بخصوص سقف المفاوضات، فإن المقترح المغربي للحكم الذاتي يمثل السقف الذي لا يمكن تجاوزه. فالمغرب يعتبر أن المفاوضات يجب أن تنصب على كيفية تنزيل الحكم الذاتي، وليس على مبدأ السيادة أو تقرير المصير خارج إطار الحكم الذاتي. هذا السقف يضمن:
•السيادة المغربية الكاملة: حيث تبقى الاختصاصات السيادية الحصرية للدولة المركزية.
•الواقعية والجدية: حيث أصبح المقترح هو الأساس الوحيد الذي تصفه القرارات الأممية بأنه “جدّي وذو مصداقية”.
2. التحديات الإنسانية والقانون الدولي الإنساني
إن البعد الإنساني يمثل تحدياً أخلاقياً وقانونياً لا يمكن فصله عن المسار السياسي. وتبرز هنا قضيتان رئيسيتان:
•مشكل عودة المغاربة المحتجزين: تظل قضية المحتجزين والمفقودين من المغاربة في سياق النزاع قائمة، وتتطلب حلاً إنسانياً عاجلاً وفقاً لمبادئ القانون الدولي الإنساني.
•مشكل غير المغاربة والقانون الدولي الإنساني: تثير وضعية سكان مخيمات تندوف، بمن فيهم غير المغاربة، مسألة مسؤولية الدولة المضيفة (الجزائر) بموجب القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان . ويشمل ذلك المطالبة بالإحصاء والتسجيل، وضمان حرية التنقل، والتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان، وهي قضايا تضع الجزائر أمام مسؤوليتها القانونية كدولة حاضنة للمخيمات.
ثانياً: معركة التنزيل :الحكم الذاتي والجهوية المتقدمة.
يواجه تنزيل الحكم الذاتي تحدياً دستورياً يتمثل في التوفيق بين طبيعته الخاصة وبين الإطار العام للتنظيم الترابي للمملكة، الذي يرتكز على الجهوية المتقدمة، كما نص عليها دستور 2011 .
إن الفرق الجوهري يكمن في الاستقلال السياسي الذي يمنحه الحكم الذاتي، والذي يتجاوز بكثير سقف اللامركزية الإدارية والوظيفية للجهوية المتقدمة. فالحكم الذاتي المقترح ينص على نقل جزء من الصلاحيات السيادية في مجالات التشريع والتنفيذ والقضاء إلى الجهة، مع احتفاظ الدولة المركزية بالاختصاصات السيادية الحصرية (الدفاع، الأمن ، العلاقات الخارجية، العملة، والوظيفة الدينية للملك) .
لذلك، فإن التنزيل الفعلي للحكم الذاتي يتطلب إما تعديلاً دستورياً يخصص باباً أو فصلاً لـ “الوضع الخاص لجهة الحكم الذاتي”، أو إصدار قانون تنظيمي خاص يمنح الجهة صلاحيات استثنائية تفوق ما هو منصوص عليه في القانون التنظيمي للجهات، لضمان الاستقرار القانوني والمؤسساتي لهذا النظام.
ثالثاً: التحدي السياسي والاستراتيجي: النخب المحلية واختبار الدولة
لا يقتصر التحدي على الجانب القانوني، بل يمتد إلى الساحة السياسية، حيث يتطلب الحكم الذاتي إجابات واضحة على أسئلة الحكامة والقيادة.
1. النخب المحلية وتدبير مؤسسات الحكم الذاتي
يعد تأهيل وشرعية النخب المحلية التي ستتولى تدبير مؤسسات الحكم الذاتي (السلطة التشريعية والتنفيذية الجهوية) حجر الزاوية في نجاح المقترح ، فالحكم الذاتي الحقيقي يتطلب:
•نخبة مؤهلة: قادرة على ممارسة الصلاحيات الواسعة في مجالات التخطيط الاقتصادي، وإدارة الموارد المالية، وسن التشريعات المحلية.
•نخبة ذات شرعية: يتم اختيارها عبر انتخابات حرة ونزيهة، لضمان تمثيلها الحقيقي لسكان الجهة.
إن غياب نخبة قادرة على تحمل هذه المسؤولية قد يؤدي إلى انزلاقات إدارية وسياسية، ويحول الحكم الذاتي إلى مجرد واجهة شكلية، مما يقوض مصداقيته أمام المجتمع الدولي والسكان المحليين.
2. الدعم الدولي لنجاح التطبيق
إن الدعم الدولي المتزايد للمقترح، من قوى عظمى مثل الولايات المتحدة ودول أوروبية وازنة مثل إسبانيا وفرنسا، يمثل رصيداً سياسياً يجب استثماره في مرحلة التنزيل . هذا الدعم لا يقتصر على الاعتراف السياسي، بل يجب أن يترجم إلى:
•دعم تقني وقانوني: للمساعدة في صياغة القوانين التنظيمية والآليات المؤسساتية للحكم الذاتي لاستمرار هذه الدول في سندها للمغرب والحيلولة دون اي مناوشات مستقبلية من شأنها عرقلة نهاية الملف.
•دعم اقتصادي: لضمان التنمية المستدامة في الجهة، مما يعزز جاذبية المقترح.
3. الحكم الذاتي: اختبار لقدرة الدولة المغربية
إن تنزيل الحكم الذاتي يمثل اختباراً استراتيجياً لقدرة الدولة المغربية على التطور والصمود لأي انزلاقات. فالمشروع ليس مجرد حل لنزاع إقليمي، بل هو رافعة لإعادة بناء النموذج الوطني برمته .
هذا الاختبار يتجلى في:
•القدرة على الإصلاح الدستوري: إثبات مرونة الدستور المغربي وقدرته على استيعاب وضع خاص واستثنائي دون المساس بوحدة الدولة.
•القدرة على الحكامة الرشيدة: إظهار قدرة الدولة على تفويض سلطات حقيقية، ومحاربة الفساد، وضمان الشفافية في تدبير الموارد المحلية، مما يعزز الثقة في المؤسسات.
•القدرة على الصمود: إثبات أن الدولة المغربية قادرة على تحويل التحدي الإقليمي إلى فرصة لتعميق الديمقراطية المحلية وتكريس اللامركزية المتقدمة، مما يحصنها ضد أي محاولات لزعزعة استقرارها.
خاتمة
لقد نجح المغرب في تحويل مقترح الحكم الذاتي من مجرد مبادرة سياسية إلى خيار دولي مدعوم، وهو ما يمثل إنجازاً دبلوماسياً لا يمكن إنكاره. ومع ذلك، فإن المرحلة القادمة هي الأصعب، وهي مرحلة التنزيل الدستوري والسياسي.

