فيضانات آسفي وقانون 110.14: تضامن معلق بشروط
بقلم : سعيد حفيظي
لم تكشف فيضانات اسفي عن هشاشة البنيات التحتية وضعف جاهزية المدينة في مواجهة التقلبات المناخية فحسب بل عرت بشكل فاضح اعطابا عميقة في منظومة السياسات العمومية التي ما تزال تتعامل مع الكوارث بمنطق رد الفعل لا بمنطق الوقاية والاستباق وربط المسؤولية بالمحاسبة فعندما تتحول الامطار من نعمة منتظرة الى فاجعة انسانية وتتساقط معها الارواح وتغرق المنازل وتشل الحركة الاقتصادية يصبح من غير المقبول الاستمرار في تسويق الكارثة باعتبارها قدرا طبيعيا لا مرد له بينما هي في حقيقتها نتاج اختيارات سياسية وتشريعية وتدبيرية تراكمت عبر سنوات من الاهمال وسوء التخطيط وغياب الرؤية الاستراتيجية
ان فاجعة اسفي لم تكن حدثا معزولا ولا طارئا بل جاءت لتعيد طرح اسئلة قديمة جديدة حول منطق تدبير المخاطر في المغرب وحول مدى استعداد الدولة لمواجهة كوارث اصبحت اكثر تواترا وحدة بفعل التغيرات المناخية والتمدن العشوائي وضعف المراقبة وغياب العدالة المجالية لقد اظهرت هذه الكارثة ان المدينة ما تزال تفتقر الى بنية وقائية قادرة على امتصاص الصدمات وان التدخلات تظل في اغلبها متاخرة وموسمية ومحدودة الاثر
وفي قلب هذا النقاش يبرز القانون رقم 110.14 المتعلق باحداث نظام لتغطية عواقب الوقائع الكارثية والذي جرى تقديمه عند صدوره باعتباره مكسبا تشريعيا وخطوة متقدمة في تكريس التضامن الوطني غير ان التجربة العملية اظهرت ان هذا القانون يعاني من قصور بنيوي يجعله اقرب الى الية لتدبير الغضب الاجتماعي وامتصاص الاحتقان في لحظة الازمة منه الى اطار قانوني متكامل لحماية المتضررين وصون كرامتهم فالفرق شاسع بين التضامن كشعار سياسي يرفع في الخطابات الرسمية والتضامن كسياسة عمومية فعالة لها ادوات واضحة ونتائج ملموسة على ارض الواقع
ومن حيث البناء القانوني يقوم هذا النظام على منطق مزدوج يعكس تمييزا اجتماعيا واضحا بين فئتين فئة محمية عبر التامين لمن تملك القدرة على الاداء وفئة اخرى توضع في خانة التضامن عبر صندوق مخصص لغير المؤمنين غير ان هذا الصندوق الذي كان يفترض ان يجسد جوهر العدالة الاجتماعية تحول في الواقع الى اطار مثقل بالشروط والمساطر المعقدة والاليات البيروقراطية المرهقة ما جعل الولوج اليه مسارا شاقا وطويلا يفرغ الحق في التعويض من مضمونه ويحوّله الى امتياز نادر بدل كونه حقا دستوريا مرتبطا بالحماية الاجتماعية والكرامة الانسانية
ولا يقتصر الخلل على الجانب المسطري فقط بل يتجاوزه الى فلسفة التعويض نفسها حيث اعتمد المشرع نظرة ضيقة ومحدودة للخسارة قابلة للتدبير السياسي لا للمعالجة الجذرية فالقانون لا يعترف الا بالسكن الرئيسي والاضرار البدنية وتعويض ذوي الحقوق في حالات الوفاة في تجاهل شبه كامل للاضرار الاقتصادية والاجتماعية التي تلحق بالانشطة المهنية الصغرى والتجار والحرفيين والعمال غير المهيكلين الذين يشكلون العمود الفقري للاقتصاد المحلي ويعتمدون على دخل يومي هش سرعان ما ينهار مع اول كارثة
وهنا يتجلى البعد السياسي للاختيار التشريعي حيث يتم الاكتفاء بتوفير الحد الادنى من التعويض الذي يضمن تهدئة الاوضاع وتفادي الانفجار الاجتماعي دون الالتزام الحقيقي بضمان استقرار اقتصادي واجتماعي مستدام للمتضررين فالسياسة العمومية لا تستهدف اعادة بناء الحياة بقدر ما تسعى الى اعادة الهدوء وهو فارق جوهري بين منطق الدولة الاجتماعية ومنطق الدولة التدبيرية التي تشتغل بمنطق الازمات لا بمنطق الحقوق
وبهذا المعنى يتحول نظام التعويض من اداة للحماية الى وسيلة لادارة الهشاشة ومن سياسة عمومية ذات افق استراتيجي الى تدخل اسعافي ظرفي يفتقد للرؤية الشمولية فلا حديث جدي عن الوقاية ولا استثمار حقيقي في البنيات التحتية المقاومة للمخاطر ولا ربط صريح بين وقوع الكارثة والمسؤوليات المتعددة سواء تعلق الامر بالتخطيط العمراني او بتدبير مجاري المياه او بمراقبة البناء واحترام معايير السلامة وكان الكارثة تحدث في فراغ سياسي لا فاعلين فيه ولا محاسبة
ان فيضانات اسفي تضع الدولة امام مرآة غير مريحة تعكس بوضوح ان السياسات العمومية في مجال تدبير المخاطر ما تزال اسيرة منطق رد الفعل وان القانون 110.14 بصيغته الحالية عاجز عن مواكبة تحولات الواقع وتسارع وتيرة الكوارث الطبيعية فالاعتماد على نص قانوني محدود دون مراجعة جذرية وشاملة ليس سوى تاخير لمأساة قادمة ستتكرر في مدينة اخرى وبالسيناريو نفسه من صدمة وتعاطف وخطاب تضامني ثم نسيان
وعليه فان مراجعة هذا القانون لم تعد مسالة تقنية محضة تترك للجان والخبراء بل اصبحت قرارا سياسيا بامتياز يختبر مدى جدية الدولة في الانتقال من خطاب التضامن الى ممارسته الفعلية مراجعة تعيد تعريف مفهوم التعويض وتوسعه ليشمل الخسائر الاقتصادية وتبسط المساطر وتضمن سرعة وشفافية الاستفادة وتربط بوضوح بين الكارثة والمسؤولية والمحاسبة وتضع المواطن في قلب السياسة العمومية لا على هامشها
فاما ان تتحول فاجعة اسفي الى لحظة وعي سياسي وتشريعي تفتح الباب امام اصلاح عميق لمنظومة تدبير الكوارث واما ان تظل مجرد حلقة اخرى في سلسلة مآس تدار بالصمت والتعويض الجزئي الى ان ياتي فيضان اخر ليطرح السؤال نفسه بحدة اكبر من يحمي المواطن عندما تغيب الرؤية وتفشل السياسات وتفرغ القوانين من روحها.

