المجلس الأعلى للأمن… بين الدسترة والتفعيل: سؤال الحماية ورهان السيادة
منذ إقرار دستور 2011، برزت مؤسسة جديدة في البنية الدستورية للمملكة، تمثلت في المجلس الأعلى للأمن، كهيئة عليا للتشاور بشأن إستراتيجيات الأمن الداخلي والخارجي، وتدبير حالات الأزمات، والسهر على مأسسة ضوابط الحكامة الأمنية. هذا المستجد الدستوري يعكس وعيا سياسيا متقدما بأهمية الأمن كأحد ركائز الدولة الحديثة، وكمدخل لضمان استقرارها ووحدتها في محيط إقليمي ودولي متقلب.
ينص الفصل 54 من الدستور على أن المجلس الأعلى للأمن يرأسه الملك، وله أن يفوض لرئيس الحكومة رئاسته عند الاقتضاء، ويضم في عضويته رؤساء المؤسسات الدستورية والوزراء المعنيين والمسؤولين الأمنيين وضباطا سامين من القوات المسلحة الملكية، وكل شخصية يعتبر حضورها مفيدا لأشغاله. غير أن الإشكال الذي يطرحه هذا المجلس لا يتعلق بفلسفة إنشائه، بل بتأخر إخراج نظامه الداخلي إلى الوجود، رغم مرور أكثر من عقد على التنصيص عليه دستوريا، في وقت تستوجب فيه المتغيرات الأمنية تسريعا في وتيرة التفعيل المؤسساتي.
إن غياب قانون تنظيمي خاص بالمجلس، على غرار باقي المؤسسات الدستورية كالمجلس الاقتصادي والاجتماعي أو المحكمة الدستورية، يجعل من الضروري إعادة التفكير في الإطار القانوني المنظم له، لضمان وضوح الاختصاصات وتكامل الأدوار بين الفاعلين الأمنيين والمدنيين. فالأمن اليوم لم يعد شأنا تقنيا محضا، بل أصبح شأنا سياسيا واستراتيجيا بامتياز، يتداخل فيه البعد الدستوري مع التخطيط الاستباقي والتنسيق المؤسساتي.
لقد شكلت الخطب الملكية المتعددة، ولا سيما خطاب افتتاح السنة التشريعية الثانية من الولاية التاسعة، تنبيها واضحا بضرورة تفعيل مؤسسات دستور 2011. ففي تلك الخطب دعا الملك إلى مراجعة النصوص المنظمة لهيئات الحكامة ووضع الإطار القانوني للمؤسسات الجديدة، بما ينسجم مع القيم الدستورية والاختيارات الكبرى للدولة. إنها رسالة سياسية دقيقة للفاعلين الحزبيين والتشريعيين مفادها أن بناء المؤسسات لا يحتمل التأجيل ولا الخلافات السياسوية الضيقة.
رهان تنزيل المجلس الأعلى للأمن، إذن، لا ينفصل عن مدى وعي النخب السياسية بخطورة المرحلة. فالعالم اليوم يعيش على وقع تهديدات إرهابية، وتحولات جيوسياسية، وصراعات إقليمية تلقي بظلالها على الأمن الوطني.
في هذا السياق، يصبح من العبث أن تبقى مؤسسة بهذا الحجم خارج دائرة التفعيل، لأن الأمن الوطني ليس شأنا ظرفيا بل هو خيار استراتيجي مستدام.
كما أن الدستور المغربي منح للحكومة والبرلمان، في فصله 78، حق التقدم باقتراح القوانين، ما يعني أن تأخر تفعيل المجلس لا يفسَّر فقط بعوامل تقنية، بل أيضا بغياب الإرادة السياسية في إخراج النصوص المكملة للدستور، وهنا يطرح السؤال الجوهري: هل يدرك الفاعل السياسي أن تفعيل المجلس الأعلى للأمن هو حماية جماعية للوطن، وليس ملفا إداريا قابلا للمماطلة؟
الملك، بصفته رئيس الدولة، ظل يؤكد أن المؤسسات يجب أن تكون في خدمة المواطنين، بعيدا عن الحسابات الحزبية أو التوافقات السلبية التي تقدم المصالح الفئوية على المصلحة العليا للوطن.
وهذه القاعدة هي التي تجعل من المجلس الأعلى للأمن أكثر من مجرد جهاز تشاوري، بل فضاء مؤسساتيا لترجمة الرؤية الملكية في مجال الأمن الوطني، ولتجسيد مفهوم الأمن بمواصفات الحكامة والديمقراطية.
إن تأخر إخراج النظام الداخلي للمجلس لا ينبغي أن يُقرأ فقط كتعثر قانوني، بل كاختبار لنضج الممارسة الدستورية بالمغرب، وقدرتها على الانتقال من النص إلى الفعل. فالأمن، في نهاية المطاف، ليس فقط درعا واقيا من التهديدات، بل هو مؤشر على نجاعة الدولة في تدبير الاستقرار وتحقيق التوازن بين الحرية والمسؤولية، وبين حماية الوطن وصون الحقوق.
إن المجلس الأعلى للأمن، إذا ما فُعِّل وفق رؤية مندمجة، يمكن أن يشكل إطارا لتوحيد القرار الأمني الاستراتيجي، ولتحقيق الانسجام بين الفاعلين المدنيين والعسكريين، وضمان التقييم المستمر للسياسات الأمنية في بعدها الاستباقي. أما بقاؤه في النص دون فعل، فهو فراغ لا يليق بدستور جاء ليؤسس لمرحلة جديدة من تدبير الدولة الحديثة، التي تضع الأمن في قلب مشروعها الديمقراطي والتنموي.
لذلك، فإن الوقت قد حان لأن يتحول هذا المجلس من نص جامد إلى مؤسسة فاعلة، لأن أمن الوطن ليس ترفا سياسيا، بل هو العمود الفقري لاستمرار الدولة وضمان سيادتها واستقرارها.

