العقل المعتقل و مفارقات الجهل المركب ..

العقل المعتقل و مفارقات الجهل المركب ..

عندما يكون إبن رشد نكرة ، و يكون ” عبد الرحمان ابن خلدون ” مجهولا ؛ فلا يعرف الناس كاتبا اسمه ” محمد خير الدين ” و لا روائيا هو ” محمد زفزاف ” . و عندنا تكون المدن بلا مكتبات و تأوي الكليات المجرمين من عشاق السيوف . و بالمقابل يستمتع القطيع بأغنية ” عطيني صاكي ” للعلامة ” الداودية ” . و عندما تكون قنوات ما يسمى القطب العمومي مركز لإيواء ” الفنانين ” على المقاس من الأغبياء المحظوظين على صحوة الجميع . و عندما يموت الأطفال لغياب خدمة صحية لائقة بفيافي التهميش ، و ينعدم الأطباء و يموت الممرضون بالأمراض المزمنة لرواتب شهرية هزيلة تقل عن منحة ابناء المحظوظين من السادة وزارائنا الأوفياء جدا جدا للوطن من المتخصصين في اقتناء ” الفيلات ” و القيام بعمليات تجميل و شحط الذهون لترميم تضاريس الفقر الملازم لهم طيلة عقود خلت قبل نعيم الكراسي و رونق المناصب . و عندما يتم تنظيم اكبر مهرجانات ” الشطيح و الرديح ” في مدننا التي تفتقر الى المراحض العمومية ، ما دامت المكتبات من وحي الخيال !! عندما نمنح الملايين ل ” فنانين ” تحت العرض لأداء اغاني السوق على منوال ” إيني حا ايني حاحا ” و ” دور بيها يا الشيباني دور بيها ” و على غرار اغنية ” للي نافسني فيها اوجد لراسو كفن ” للأكاديمي عبد العزيز صاحب أطروحة ” لفيزا و باص بور ” !! .ثم يرقص أبناء مدننا على إيقاعات ” الروكي ” و ” الهيب هوب ” ، لدرجة ان العالمة ” تراكس ” نجحت في مقارنة الشيخات بالطبيبات و الأستاذات وفق منهج ابيستمولوجي دقيق قوامه ” لحلاوة فين كاينة ” !! كيف لا و الأساتذة الباحثون يتقاضون رواتب أقل من ماسحي الأحدية بمحاذاة مجلس النواب !! و غير بعيد من هواميش الهشاشة و ” براريك ” المهمشين يرقص القطيع لفوز البارصا ايذانا بنجاح ثورتنا الثقافية التي فشل فيها ماو تسي تونغ .

عندما يكون المحسنون أسخياء في بناء المساجد فيقدمون الملايين بلا تردد ، فيكون بين المسجد و المسجد مسجد . الأمر مفيد بما أن الجهل المقدس خوصص الله و جعله يحضر فقط في المساجد ، و كأن المدارس و الجامعات و المارستانات بيوت ابليس !! . و عندما تظل المدارس بلا أسوار ، و لا تعوض الحكومة الأعوان المتقاعدين ، و تنعدم المكتبات في المدارس و في الثانويات ، في وقت يقرأ الغرب حتى في المرحاض . و في أحسن الأحوال تكون المكتبات كئيبة تفوح منها رائحة الحنوط . الأمر مفهوم !! فكيف لا و المثقفون مصفرّة وجوههم كأنهم ضحايا الأنيميا ، بيد أن العظماء من طينة فناني العار يقطنون الفيلات و يمتطون صهو ” الفيراري ” و ” الأودي ” ، و يبدون شبابا في الستين !! كيف لا و المثقفون مغتربون حتى عن أهلهم و ذويهم ، و ” المجد للشيطان معبود الرياح ، من قال لا في وجه من قالوا نعم ، من قال لا فظل روحا أبدية العدم ” و لقد كان ” أمل دنقل ” صادقا ؛ و الأن فقط قد فهمت لماذا صرح درويش ” لا شيء يعجبني ، لا الراديو و لا صحف الصباح ” !!

إن مناقشة تاريخ العقل يقتضي الكث من الوعي التاريخاني الذي يرتفع عن مختلف أشكال الإنتماء إلى بنيات ضيقة نحو الأفق التاريخاني حتى يتسنى فهم سياقات تحرر العقل من قيود الخرافة ، خاصة أن صراع الميتوس و اللغوس دام ردحا من الزمن لدرجة أن الضحايا كانوا حتى من صفوة البشر من اولئك العقلاء الذين انتصروا الى الفكر الحر مهما كان الثمن في الزمن الأول المؤسس للنبوة و الفلسفة . و لقد لعب الفلاسفة الإغريق أدوارا دقيقة في كشف عورة الجهل المقدس من خلال دفوعهم العقلانية بساحة الأكورا التي كانت تتيح فرص مفتوحة لضحد اللاعقل و اسقاط لبنات السفسطائية من لدن الرعيل الأول المؤسس للمحاججات المنطقية في الزمن الذهبي للعقل بأثينا تحديدا بمقربة نسائم بحر إيجه . كما أن أروبا إبان التاريخ القروسطي شهدت أحداثا مأسوية راح ضحيتها شهداء العقل من الذين ثاروا على محاكم التفتيش و تمردوا على العنف المقدس الذي استرخص الأرواح دفاعا عن الكذب المقدس الذي كانت ترعاه الكنيسة بدعم من الأنظمة المستبدة . و ما تاريخ توماس ألاكويني الذي كان الإبن العاق للمسيحية و جيوردانو برونو الذي أحرقه الكهنوت و كاليلو الذي تمت محاكمته بقسوة من لدن الإكليروس أعداء العلم سوى غيض من فيض من زمن الجمر الذي سجله تواطؤ السياسة بالدين في سياقات الأزمنة الوسطى . و اللائحة تطول لتطال الكثيرين من طينة باروخ سبينوزا الذي ثم رميه بالإلحاد بمؤامرة من اليهود الأغنياء الذين اتهموه بالكفر البواح و زعزعة عقيدة اليهود المؤمنين   ناهيك عن من هاجر هاربا من محاكم التفتيش التي أنتجت الرعب إبان زمن القتل المقدس بأروبا القروسطية حيث لائحة النسف طويلة جدا و تطال مختلف الإشراقات التي ولدت من بين مخالب التحكم اللاهوتي المعادي للعقل . وغير بعيد عن هذه المأساة التي نالت من العقل بأروبا تحديدا ، كان العالم الإسلامي يشهد الأحداث نفسها في سياقات مختلفة و بأشكال أخرى لدرجة أن محنة المعتزلة تسجل ل " محاكم التفتيش الإسلامية " خطرها المحذق بالعقل الذي طالته المقصلة في كثير من المحطات ضمن ما سماه محمود إسماعيل بمحنة بولشفيك الإسلام من الخوارج و المعتزلة منذ لحظة التمزق الأولى إبان الفتنة الكبرى التي عرّت تناقضات العقيدة تحت عنف التأويل السياسي للشرعية كما وضح هشام جعيظ في تفاصيل الفتنة الكبرى . فماذا كان وراء خوف الفيلسوف العقلاني و المؤرخ المستقل و الشاعر " الصعلوك " الثائرين جميعا على سياجات القبيلة الدوغمائية و مركزية الدولة التسلطية سوى ماكينة الرعب السياسي الذي كانت تمثله سلطة الخلافة الإسلامية المناهضة لكوادر العقل بإيعاز من هيمنة الجهل المقدس الذي كان يشرعن العنف السياسي باسم السماء عبر تأويلات ارتكاسية للتاريخ و من خلال انزياحات أيديولوجية للمقدس التيولوجي بما يضمن شرعية نظام الخلافة من مدخل التحكم و الإستبداد . و أزعم ان إخوان الصفا و خلان الوفاء كانوا نمودجا حيا للعقل العملي الذي حاصره الفعل السياسي التوتاليتاري في زمن كانت دهاليز السرية أرحب من مساحات التحكم السياسي المركزي الذي جسدته " يعقوبية " الخلافة التي كانت تمنع النقاش و التداول في قضايا الأفراد و المجال بمداخل العقل بأدوات الحصار التي كان يتيحها الفقه الرسمي القائم على منسوب كبير من النزعات القدرية المعادية للعقل المنفلت من عنف الأدلجة القدرية ، لدرجة كانت أقلام هؤلاء تنتج الفكر بخصوبة بسراديب مغلقة تحت الأرض ، حتى أن رسائل إخوان الصفا كانت لا توقع بأسماء أصحابها خوفا من البطش المؤسّس الذي كان يرفض أي مساس بالحد الأدنى من الحرية التي احتكرها الفقة الإكليريكي الرسمي رغم جرأتها الفكرية و تمكنها النظري في مختلف القضايا السياسية و العقدية و في اللاهوت و الميتافيزيقا . و أؤكد إن محنة المعتزلة كما بيّن صاحب " الحركات السرية في الإسلام " كانت دليلا كافيا لمعرفة مدى الرعب الذي مارسه الفقه السياسي الإسلامي العملي على ما أسميه ب " العقل المدني المستقل " الذي ميز الأنتلجنسيا العقلانية عبر تفاصيل كثيرة مثّلها إخوان الصفا و المعتزلة و عموم العقلانيين من التوحيدي و المعري و الجاحظ و البيروني و إبن الراواندي الذي ذهب بعيدا في طمس شرعية المقدس في اتجاهات أكثر صخبا كما هو الشأن لدى القرامطة و المرجئة و باقي الفرق كما أكد البغدادي في متنه " الفرق بين الفِرق " . و من إبراهيم ابن السيّار النظام إلى الجاحظ و اخوان الصفا إلى إبن رشد المغربي و محنة العقل تتكرر بأشكال مختلفة بما يؤكد محنة اللغوس الذي انحصر تأثيره تحت وقع الخراب الممنهج بسلطة المركزية السياسية التي شرعنت تحكمها بالفقه الرسمي في محطات كثيرة منذ العهد الأموي نحو العهد العباسي الثاني و اشتداد نزعات الإرتكاسية عبر المِلل و النِّحل . و أذكِّر إن حبس الإمام أحمد و مضايقة التوحيدي و  إحراق كتب ابن رشد كان دليلا على الرعب الذي عاشه العقل المدني المستقل عن سلطة الفقه الرسمي الذي كان سندا للسلطة السياسية الباحثة عن الشرعية التي كان العقل المتحرر يشكك فيها بواسطة المطرقة التفكيكية و فؤوس " الجينيالوجية " المعتمدة من لدن فحول علم الكلام و التي تعري أسس الأساطير المؤسسة من خلال ضحد اطلاقية الفقه التاريخي الذي نصّبته السلطة السياسية المركزية الرسمية معياريا يعادل العقيدة " الصحيحة " التي تميز " المؤمن الصالح " عن باقي المهرطقين . و يكفي الرجوع إلى كتابات أبي حامد الغزالي صاحب " فيصل التفرقة بين الإسلام و الزندقة " لمعرفة الحظوة التي كانت للفقهاء و لأهل الحل و العقد من الأقربين للسلطة السياسية المهيمِنة على عكس الحصار الذي ضُرب على العقل المستقل الذي مثلته انفلاتات المعتزلة و بعض فرق الخوارج . فعندما كتب الغزالي متنه المعادي للفلسفة و العقل حظي بدعم سياسي كبير من لدن صانع القرار السياسي المعادي للفكر الحر الذي كان يحرض العامة ضد عنف السلطة و يدعو الناس إلى الإحتكام إلى دفوع العقل ، و هو نفسه ما حصل مع إبن تيمية الذي بدأ عقلانيا ثم استدرجته السلطة المركزية تحت دواعي دقيقة فنصّبته محاميا للفقه الجامد ضد العقل بإيعاز مباشر من الخليفة خدمة للشرعية التيوقراطية . و رغم أن رد الفعل ضد الفقه المناقض للفلسفة جاء من إبن رشد الذي كان محاميا شرسا و متميزا بدفوعه لصالح العقل المتحرر من تبعية السلطة بما جعله نموذجا للمثقف العقلاني الذي رفض قبول شروط الهيمنة التي فرضها تلاثة السياسي ، فإن الغزالي استمر في تكفير الفلاسفة و ظل يتماهى مع لازمة " من تمنطق تزندق " رغم اقتباسه الشكلاني من المنطق الأريسطي ، بيد أن ابن رشد كان يرافع بقوة على أهمية الفلسفة و لذلك كتب " فصل المقال فيما بين الفلسفة و الشريعة من اتصال " ردا شافيا منه على ادعاءات تكفير الفلسفة من لدن الغزالي المسنود رسميا . و بين ثنايا هذا الكتاب قدم فيلسوف الفقهاء و فقيه الفلاسفة حزمة من الدفوع لصالح الفلسفة التي خوّنها الغزالي و كفّر أهلها ، هو ما تكرر عندما كتب مثنه الدقيق " تهافت التهافت " الذي ولد كرد فعل مباشر لتقويض أسس تكفير الغزالي للفلسفة في صك الإتهام الموثق في مثنه " تهافت الفلاسفة " . إن إبن رشد كان نمودجا للعقل المتحرر من سلطة السياسة و من عنف اللاهوت الدولتي لدرجة أن السلطة المركزية أعطت أوامرها بحرق الكتب الرشدية بقرار رسمي في زمن محنة المعتزلة . و يبدو أن مسارات المعتزلة شرقا و غربا  كانت تعكس انتصار السلطة السياسية للمنطق الاشعري على أشلاء منطق المعتزلة المنتصر للثرات المنطقي الإغريقي - اللاثيني / الهيلينستي ، و بتميز و اقتباس فريدين . و الأساس من كل هذا يبق هو إن مسيرة العقل طالما اصطدمت بوابل من المتاريس المتخصصة في إرباك مسيرته و بأشكال ممنهجة بإيعاز من السلطة السياسية المدعومة من لدن فقهاء الجهل المقدس من ذوي الحل و العقد الموالين للريع الفقهي و من زعماء الأداب السلطانية الأثرياء بالريع السياسي في مضمار البدخ الفكري الذي كانت ترعاه الماكينة النظامية في كثير من المحطات شرقا و غربا على طول دار الإسلام . و إلى الأن ما تزال تداعيات محاصرة فكر المعتزلة ترخي بظلالها على واقع التخلف العام الذي يزكيه الجهل المركب مقدسا و مؤسسا في أرجاء هذه الأمكنة المتأخرة من الشرق الأوسط الذي يعاند ثورة العقل كما هي مبثورة منذ محاصرة طه حسين و محاكمة ناصر حامد أبو زايد و اغتيال فرج فودة و تبخيس محمد ارغون بأدوات الحصار الوهابية التي أعادت إنتاج التخلف من نفس بوقفة الثرات . و لعمري إن ناصر حامد ابو زايد كان على حق عندما اعتبر محاربة فكر المعتزلة كان التمهيد الأول لتخلف الأمة و التطبيع مع النزعات القدرية التي شرعنت التأخر التاريخي باسم المشيئة الإلاهية التي تجعل تقدم الشعوب و تخلفها قدرا مقدرا . و  لقد كان الباحث حسن حنفي دقيقا في ملامسته لسؤال العقل من داخل سياجات الثرات ، ليأتي العروي مطالبا بالإنتصار الى فكرة التاريخانية كأفق كوني عقلاني مرن يسمو على كل الخصوصيات المعادية لنبض التاريخ لصالح إيقاعات اللغوس الذي يتجاوز حدود الخصوصيات نحو فهم سليم لمغزى روح التاريخ في كونيته و شموليته . و مهما كانت أطروحات محمد عابد الجابري عميقة في مثنه " نحن و الثرات " ، إلا أنه سقط ، من حيث لا يدري ، ضحية للخصوصية التي جعلته متمردا على اعطاب الخصوصية شكلا لا مضمونا فانتهى حبيس أعطاب العقل العربي في بنياته التأملية دون أن ينجح في إخراج نفسه من سياجات الثرات القومي البئيس نفسه و الذي يكرر تفسير انحرافات التاريخ و انزياحات العقل باسم الشرط الذاتي دون القدرة على تحرير العقل من التأويلات الإثنية كما تضبطها المجالية الثقافية العربية التي أنتجت محدودية العقل العربي تحت تأثيرات الوهابية المعادية للعقل ، و لذلك ظلت اجتهاداته حبيسة مجال التفكير القبلي لدرجة ان مثنه " العصبية و الدولة " يفضح خلفيات التفكير لدى سليل بلدة " فكيك " البعيدة كليا عن مدينة " أزمور " التي جعلت نجلها العروي أكثر جرأة من حيث تقعيده لنظيمة القطيعة الإبيستيمولوجية مع الثرات بعيدا عن النظرة التوفيقية العاجزة عن حسم سؤال الإختيار بما يوطد الفهم التاريخاني للعقل . و من آسف ؛ انتصر الجابري منذ إقامة اليوطي للدولة المدنية شكلا و بعمق تقليداني لحظة توقيع عقد الحماية بدعم من المشروع السوسيولوجي الكولونيالي الذي رعاه الرعيل الأول من طينة رواد الإنقسامية الأنتروبولوجية الكولونيالية على قاعدة المفارقات التالية العرف ضد الشريعة و المخزن ضد السيبة و الأمازيغ ضد العرب و الجبل ضد السهل ، على أنقاض مشروع التحرر التاريخاني الذي دافع عنه العروي الذي اعترف بفشل كل المشاريع منذ إصداره للأيديولوجيا العربية المعاصرة في خضم انتكاسة 1967 على نفيض الفهم التوفيقي المزدوج الذي يعاند سيولة الحداثة التاريخانية . و منذ ذلك الوقت و سؤال التأخر التاريخي يسائل العقل و إلى الأن تحت تأثيرات أزمة العقل المعتقل في زنزانة التراث . 

 فعن أية نسقية عقلانية نتحدث و نحن توافقنا جميعا على محاصرة فكر ابن رشد الذي تتلمذ عليه فيلسوف المسيحية المجدد طوماس ألاكويني و نصبته أروبا الحديثة عرابا للعقلانية و وضعت له تماثيل بالجامعات . عن أي عقل نتحدث و المغاربة ظلوا عاجزين عن استتباب عقل مغربي متحرر من ثنائية الشرق و الغرب رغم إسهامات رواد المدرسة الوطنية منذ فجر الإستقلال . و  كيف يجوز التفكير في نمطية زوج ثرات / حداثة في كنف نظرة توافقية تدليسية من خلال مكر ثنائية الأصالة و المعاصرة التي تسمح للتقليد بتطوير نفسه لمحاصرة الحداثة بما يجعل الشكل حداثيا و العمق تقليدانيا لصالح حداثة برانية بعمق جواني تقليداني . و متى كانت للعقل حريته في بناء نفسه بعيدا عن تأثيرات السلطة السياسية المحبطة لعرى التحرر ضمن كل محاولات الإصلاح منذ الحسن الأولى و ما بعده من محاولات الصدر الأعظم باحماد . 

 إن مطارحة سؤال العقل إذن يسترعي منهجيا الإعتراف بذلك المأزق الإبيستيمولوجي الذي يوطد ثنائية النقل و العقل ضمن مسيرة ممتدة أفقيا عبر هيمنة النزعات القدرية الأشعرية على سلوك العامة أفقيا و عموديا عبر استثمار السلطة المركزية للاهوت الإرتكاسي بغية تيسيير لعبة التدجين عبر أدوات الفقه الإكليريكي و هو ما عمق فيه التحليل حسين مروة في كانت الضخم " النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية " . و مهما كانت المقاربات جريئة من خلال بياضات متنورة في التاريخ ، فإن البقاء أسرى اللاهوت السلطوي و الفهم الأيديولوجي المعياري للعقل ؛ يشكل عائقا ، ليس ابيستيمولوجيا فحسب بما ينتج ظواهر معرفية معطوبة ، بل عائقا حضاريا يعيق عجلة التاريخ بفرامل الفهم العرفاني / التيولوجي - السلطوي لصالح التقدم من داخل بوثقة التقليد بما يمانع رجحان التاريخانية في عدة مستويات منها المعياري النظري و الإيديولوجي السلطوي و التاريخي الحضاري . و لقد صدق العروي عندما قال " إن إنكار الثقافة الغربية لا يشكل في حد ذاته ثقافة ، و الرقص المسعور حول الذات المفقودة لن يجعلها تنبعث من رمادها " ؛ و بين الذات و الأخر و الداخلي و الخارجي و الوطني و الأجنبي حري ممارسة النقد المزدوج بالمحددات التي أكدها عبد الكريم الخطيبي .

  و لأن العقل الجمعي يعيش في براثن حصار مدعم بترسانة من السلط ؛ سلطة السياسة / سلطة القبيلة / سلطة المجال الترابي / سلطة التقليد / سلطة الماضي المغرية / سلطة النقل و المقدس المعياري / سلطة الكولونيالية / سلطة الباتريارك / سلطة الباطولوجيات البسيكو - اجتماعية / سلطة تقسيم العمل الإجتماعي / سلطة قمعية الظاهرة الإجتماعية / سلطة العنف السياسي و تأويل الدولة / سلطة الفقه التقليداني / سلطة احتكار المجالات الرمزية .. فإني أدعو الأنتلجنسيا المغربية الى التفكير الأكاديمي الجدي في فكر ابن رشد و بجرءة مقصودة .. و إلى ذلك ؛ نفترض ما يلي :

عندما تكون الجامعة ضحية للزبونية في التحصيل ، فنميع الدرسات العليا بالجهل المؤسس و عبر أسلحة التجهيل السيكولاستيكي . ثم ننتج أجيالا من ” الأساتذة ” الشباب بلا هم حضاري و بلا قضية ، فنحول الأساتذة إلى ” مياومين ” او ” حرايفية ” تربويين ، و تكون المقررات الدراسية أدوات لتفريخ ذهنيات مفتقرة للحس النقدي و للحد الأدنى من الوعي القيمي المطلوب . و عندما تكون الساحة الجامعية مرتعا للعصابات و البلطجية من نخب تدبر الإختلاف بزبر الحديد و بالسيوف أو مجالا للمصاحبة و ” النشاط ” ؛ ثم ننتظر غذا مشرقا في زمن غزو السماوات !! . و بدل تحميل أمهات الكتب و المعاجم ، و بدل مطارحة قضايا الفكر و الحضارة ، تتحول الفرق الى شيع مُحبطة لعرى الفهم النسبي للتاريخ . و هنا يلتقي اليمين باليسار . فيكون بذلك الحرم الجامعي مرتعا ل ” الشبيحة ” ، و يظل العلم حبيس جامعة ” الأخوين ” بنمطية بورجوازية باك صحبي، و تظل معاهد بيع العلم و صناعة النخب على مقاس الفهم المقاولاتي المحدود منتشرة كالأورام على مساحات العقل النقدي المهدور . عندما يلتقي الجهل و العنف عند أبناء القاع الإجتماعي و لا حياة لمن تنادي ، فيحتكر الأغنياء الذكاء الأصطناعي و العلم و المال ..

عندما نسخِّر الإعلام لتدمير القيم ، و عن سبق إصرار و ترصد ننتج التدجين و التجهيل . فتكون البرامج التلفزية مسمومة و ملغومة بكل المقاييس لصالح معارك ” التكلاخ ” المبين ؛ فتقدم تلفزة الوطن أبطال ” للا العروسة ” و هم يتفاعلون مع أسئلة التفاهة الممأسسة لصالح جحافل القطيع . فنسوق للرداءة و تكون ” النمدجة ” سلاحا خطيرا على منوال ” حروب الأفيون ” التي استهدفت دولة الصين في سياق هيمنة الرأسمالية الامبريالية خلال زمن ولى . فتصبح البرامج من طينة ” كي كنتي كي وليتي ” و ” رشيد كول الهريسة ” متخصصة في الإستغباء و الإستبلاذ و تسطيح الوعي و تدجين العقول لصالح التجهيل و تسفيه الذوق العام المشرق بأنوار الكذب الإعلامي الخداع . و عندما تكون قناة الحداثة المغشوشة متخصصة في إفساد الذوق الشعبي و تخريب نسق القيم . و عندما نعيش ” العار ” عبر إعلام يموله دافعي الضرائب لصالح برامج مسيئة للوطن ؛ فيكون عمر مسلسل تركي أطول من عمر خطة انقاذ الصحة العمومية التي انتقلت الى الرفيق الأعلى باسم خوصصة القطاع بتحويل المرضى إلى زبناء !!

عندما نفرغ البرامج التعلمية من المحتوى ، فيكون الأساتذة في صراع مرير مع المقررات الطويلة جدا . فيكون ” الشحن ” منهجية و الإفتاء بيداغوجيا ، و تتوقف بيداغوجيا الإدماج بقرار سياسي حكومي و لا يأتي بديل . و عندما نحارب الغش ب ” السكانير ” ، و نستقدم ” رجال الأمن الخاص ” لحماية المدارس التي من المفروض أن يحميها المجتع تلقائيا . و عندما يستعصي علينا الإعتراف بفشل منظومة القيم ؛ و ننتقل من منهاج الى منهاج و من إصلاح الى إصلاح . فتتوقف مقاربة الاهداف تحت ضغط ” الكفايات ” ، ثم بعدها يأتي التشغيل بالكونطرا على الأخضر و اليابس ، و لا حياة لمن تنادي على أنقاض الدولة الإجتماعية المستهدفة ..

عندما تكون ميزانية البحث العلمي أقل من تعويضات ” الأواني الفضية ” للسادة الوزراء الذين لا ينامون الليل بحثا عن الحلول المنصفة للشعب الأبي ، و ليس في الليالي الحمراء حيث البحث عن تعويض ” الجوع التاريخي ” الذي يحاصرهم إبان زمن الشعارات و ” الله انجيك من المشتاق إلى فاق ” فبأي آلاء ربكما تكذبان . و عندما تتذيل وزارة الثقافة القطاعات الحكومية و تكون الميزانية المرصودة لها أقل من ميزانية المنحة الممنوحة للمغنية ” لوبيز ” في مهرجان الحداثة المغشوشة بالعاصمة . و عندما يعرف الجمهور العلامة حجيب صاحب الفيلا الأنجلوساكسونية ، و يعرف مدن تركيا و لا يعرف العروي و لا الخطيبي ، أما محمد أركون فقد اختار ان يوارى الثرى عندنا ، متناسيا أننا في حقه من الجاحدين !!

عندما يخجل المثقفون من الضحك جهرا لأنهم ضحايا الإكتئاب و الوسواس القهري و المازوشية التي تدمرهم . و عندما يملأ الغوغاء الشواطيء و الحدائق و المقاهي التي ساهمت ذات زمن بأروبا في انتشار فكر الأنوار ، ثم اضحت عندنا مأوى لشراء الذمم و الاغتيال المعنوي للعقل من خلال مطارحة ملفات الزواج و الطلاق و الجنس و المؤخرات من لدن المكبوتين الجائعين من أبناء ” بوزبال ” و حتى من لدن أثرياء الجهل . و عندما تكون البارصا و الريال قضية من لا قضية له من الأرذلين و من بورجوازية العفن ؛ فيصرخ الجمهور باطولوجيا معلنا الفوز على نفسه متناسيا أن التاريخ يمارس علينا مكره بعلة كل هذه التفاهة التي تخرب جدوة حب الحياة فينا ، ثم يتبادلون التهاني بفضل النصر المبين !! و تتناسى العامة إنها مهزومة حضاريا و موؤدة تاريخيا في كل شيء و لا كلل بعلة محاصرة العقل . عندما تخصص الجماعات الترابية ميزانيات مهمة لدعم الرداءة و لشراء المجتمع المدني الإنتهازي و تؤدي استهلاك الإنارة و الماء لصالح سهرات الشعبي بالقرب من الجهل الذي يحتل كل المساحات ، ثم يبق الشباب بلا ملاعب قربٍ و بلا محاضرات
. ثم يمكث الموظفون ساعات طوال في لعبة ” اللوطو ” بحثا عن فرصة العمر ، و يلجأ الشباب الى قراءة الكتب الصفراء مثل تاج العروس أو تناول المخدرات و على كورنيشات الحداثة البرانية المزيفة لماهية العقل ..

عندما تكون دور الشباب بلا موارد بشرية و تتحول إلى أطلال مخيفة و أشباح . و تكون نفقات نزلاء المؤسسات السجنية أكبر من نفقات ” نزلاء ” دور الطالب و الداخليات . و عندما نمول بالمال العام ” الزين لي فيك “، و نمنع التمويل عن الجمعيات المدنية الجادة . و عندما تغلق المدارس و تفوت الى الخواص . و بالمقابل تبنى السجون من لدن حكومة الإخوان و يتم توسيع القديمة منها انسجاما مع ارتفاع الطلب بعد فشل نسق القيم . و عندما تخصص الملايير لتمويل السجون و لا يعمل السجناء في تجديد الوعاء الغابوي و في حفر الآبار لكي يعوضوا نفقات الأكل و الإنارة و الماء في زنازنهم المعتادة . و عندما يخلف الهدر المدرسي الملايين من الضحايا في صفوف الأطفال ، ثم نحارب بالملايين الأمية في صفوف الشيوخ …

              عند كل هذا علينا ان نتأكد أننا نغتال العقل عن قصد ، ثم نخلف موعدنا مع التاريخ . و بذلك حثما نسيء للوطن الغالي و لذواتنا عبر هدر الزمن التنموي في كل مساحات التهميش التي تضحد ادعاءاتنا بالتفوق . و ختاما إن محاربة التفاهة و رد الإعتبار للعقل المدخل الأساس لكل إصلاح منشود ..

One thought on “العقل المعتقل و مفارقات الجهل المركب ..

  1. جيد ما كتب هاد السيد الفاضل
    ما كتب هاد السيد لبد لهو ان يكون
    بتحرير العالم الإسلامي حقيقة
    اما المغرب فحالة خاصة مزرية
    ودكرة في كتابه كلو شيء من الجهل يمارس في صحوت الجميع وينسا لأسباب.
    المغرب ليس للمغرب

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *