افتتاحية مجلة 24 : المكتب الوطني للكهرباء كفى من سياسة جذب الثور من قرنيه
يبدو لي أننا لم نحسن التعاطي الكلي مع دروس وخلاصات كوفيد 19، في ايقاف مسلسل التصفية للقطاعات العمومية الاستراتيجية في البلاد.
في أعتى النظم الرأسمالية، استيقظ رجال الفكر والسياسة اليوم، على مراجعة أسس اليد الحرة، للرأسمال في القطاعات الحيوية التي تتحكم مصائر الناس، وباتت القناعات الجديدة تفيد، إن كانت هناك ضرورات لتعايش القطاع الخاص والعام. فنفس الضرورات تقتضي أن تفرمل الرغبات المحمومة للرأسمال في استهداف الربح ومراكمة الثروات على حساب الهزات الاجتماعية العنيفة.
اليوم أجراس القلق الاجتماعي تدق بقوة في قطاع الكهرباء الوطني، من أجل تفويته للخواص. وهذا الموقف بالذات غدا اليوم أكثر تعقيدا بسبب حسابات الأطراف الراغبة في التفويت.
صحيح أن القضية ليست وليدة اليوم، بل جاءت في سياق كان معه التمثل الأكثر قوة في بلادنا ، هو تمتيع الخواص بمزيد من الامتيازات للنهوض بالنسيج الاقتصادي الوطني وتحقيق الاستقرار الاجتماعي. لكن المؤشرات الوطنية الناتجة عن هذا التوجه أثبتت عجزها عن تحقيق أي إقلاع اقتصادي منشود مع الازدياد المضطرد لقاعدة الفقر والعوز والخصاص.
وكانت الدعوة الملكية، لمراجعة التوجهات، والاختيارات التنموية السائدة، والتفكير في نموذج أكثرا انصافا، وقدرة على إحداث التوازنات المطلوبة لاستقرار اجتماعي حقيقي، وازدهار اقتصادي فعلي، البديل السياسي الحكيم الذي يتجاوب مع مستقبل البلاد وتطلعاتها، للخروج من أوضاع الهشاشة الاجتماعية والتفاوتات المجالية.
لكن يتضح أن هناك أطرافا في المجتمع، لا تستحضر هذا القلق وتراهن على جذب الثور من قرنية لفرض أمر واقع نحن في غنى عن تداعياته السياسية والاقتصادية.
مسألة التصميم على تفويت القطاع الوطني للكهرباء، دخلت منعطفا جديدا، بالرهان على استخدام المؤسسات الوطنية المنتخبة وافتعال معارك اجتماعية، أغلب الظن معها، بات يؤكد أن هناك قرارات جديدة تنتظر الضوء الأخضر بعد ترتيب رقعة الشطرنج.
وكذا احتمال نتمنى صادقين، أن لا يكون هو البعد الحقيقي لتوالي الأحداث، وافتعال الصراعات في قضايا، لا يقبل تصديقها سوى مخبول انطلت عليه خيوطها المعقدة.
ما الذي حرك شخوصا لتوجيه اتهامات افتراضية للجامعة الوطنية للطاقة، التي شكلت ومنذ البدايات الأولى لاستقلال العمل النقابي بالمغرب، النموذج الأمثل في تحقيق الأجور المحترمة والتغطية الاجتماعية الرائدة، ووفرت رصيدا عقاريا هائلا برؤى استباقية وفي كل ربوع الوطن؟ وعلى المستوى المهني شاركت بمناضليها على تأمين خدمات في الطاقة رافقت بها تطلعات النسيج الاقتصادي، ولعبت أدوارا مهمة في الوقت المعاصر، لمد الشبكات الكهربائية والمحولات للقرى والمداشر، عبر التراب الوطني وربما هذه العوامل الأخيرة هي التي خلقت صعوبات مالية لهذه المؤسسة الوطنية، وما كانت لتعرفها لو تحملت الجماعات المحلية الكلفة الحقيقية لهذه الاستثمارات القوية.
وما معنى أن تدخل المؤسستين النيابيتين، في هذه القضية، وهو ما فتح الباب على مصرعيه، من طرف قوى سياسية كانت بالأمس القريب مشاركة في الحكومة، لتوجيه اتهامات لكل من رئيس غرفة البرلمان والمستشارين، واتخاذهما قرارات انفرادية في تعين ستة أعضاء، بهيئة ضبط الكهرباء. وتمتيعهما بأجور وتعويضات قد لا يجوز إقرارها في بلد يمر من أزمات مالية وهي أجور وتعويضات لا نعتقد أنها معمول بها حتى في البلدان الأوربية. لكن هذا السخاء الحاتمي وفي هذه الظروف، يزيد من طبيعة غموض الوضع على نواياه الحقيقية.
تفويت المكتب الوطني للكهرباء إلى الخواص فيه نقاش وفيه مقاربات متعددة الرؤى حسب المواقع. فلماذا نجهض هذا النقاش الوطني، وفي هذه الظروف بالذات التي نتطلع فيها لإعادة النظر في السياسات القديمة؟
كيف يمكن أن نتصور أن القطاع الخاص في الكهرباء يمكن أن يساهم في الضغط على الكلفة الوطنية للطاقة وفق الحد الأدنى للأجر ومراعاة أحوال المواطنين؟ وكيف يمكن له أن يوفر الطاقة لفائدة الوحدات الإنتاجية، وتمكينها من عناصر المنافسة، علما أن الخواص لا يستهدفون سوى الربح في المقام الأول والأخير وهذا هو منطق الرأسمال الخاص؟
قطاع الطاقة قطاع وطني استراتيجي ومن مصلحة الوطن أن يحافظ في اختياراته الوطنية على أن يظل القطاع بيد الدولة ويساهم في تأمين تطورها وأمنها.