هل يملك الملك حق إقالة رئيس الحكومة؟ قراءة هادئة في دستور 2011”

هل يملك الملك حق إقالة رئيس الحكومة؟ قراءة هادئة في دستور 2011”
بقلم: د. عبد الإله طلوع – باحث في العلوم السياسية وقضايا الشباب

تطفو بين الفينة والأخرى أسئلة سياسية تلامس أعصاب النظام الدستوري المغربي، من بينها: هل يملك الملك في دستور 2011 صلاحية إقالة رئيس الحكومة؟ سؤال يبدو بسيطاً، لكنه يختزن خلفه كل رهانات الانتقال من ملكية تنفيذية إلى ملكية برلمانية بملامح مغربية.

إن هذا السؤال ليس مجرد جدل قانوني تقني، بل هو سؤال عن فلسفة السلطة في المغرب، وعن المسافة الفعلية التي قطعناها منذ دستور 2011 باتجاه تكريس سيادة الشعب عبر ممثليه، وضمان توازن السلط وفصلها.

فمنذ الخطاب الملكي في 9 مارس 2011، الذي مهّد لوضع الدستور الجديد، ارتفعت آمال فئات واسعة من المجتمع نحو بناء ملكية برلمانية تقودها حكومة نابعة من صناديق الاقتراع، لا من منطق التعيين الفردي.

لقد جاء الفصل 47 من الدستور ليكرّس هذا المنعطف، حيث نصّ على أن الملك يعيّن رئيس الحكومة من الحزب السياسي المتصدر لانتخابات مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها.

وبذلك يكون الدستور قد ربط رأس السلطة التنفيذية بإرادة الناخبين لا بإرادة القصر.

كما أقرّ نفس الفصل حالتين حصريتين لإنهاء مهام رئيس الحكومة: الأولى استقالته الطوعية المقدّمة إلى الملك، والثانية فقدانه للأغلبية البرلمانية عبر ملتمس رقابة يقدّمه مجلس النواب وفق الفصل 105.

هذا التحول كان في حد ذاته ثورة هادئة في توزيع السلط، إذ لم يعد الملك يملك – كما في الدساتير السابقة – سلاح الإقالة المباشرة لرئيس الحكومة متى شاء أو متى ارتأى ذلك.

لقد تم سحب هذه الورقة من دائرة السلطة الملكية لصالح منطق التمثيل الشعبي، حتى وإن ظل الملك يحتفظ بدور الحكم والضامن للسير العادي للمؤسسات.

ومن الضروري التذكير أيضاً بما نص عليه الفصل 96 من الدستور:

للملك، بعد استشارة رئيس المحكمة الدستورية وإخبار رئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب، ورئيس مجلس المستشارين، أن يحل بظهير المجلسين معا أو أحدهما.

يقع الحل بعد خطاب يوجهه الملك إلى الأمة”.

إن الإشارة إلى هذا الفصل تبرز أن سلطة الملك الدستورية تتعلق بحل البرلمان وليس بعزل رئيس الحكومة، وهو تمييز بالغ الأهمية لفهم منطق دستور 2011.

فالملك يمكنه أن يعيد تشكيل الخريطة البرلمانية بحل المجلسين أو أحدهما وفق ضوابط وشكليات دقيقة، لكنه لا يستطيع دستورياً إقالة رئيس الحكومة إلا في حالتين حصريتين كما أسلفنا.

غير أن الجدل السياسي والاجتماعي حول الموضوع يعكس أزمة ثقة أعمق: هل يكفي النص الدستوري لضمان الاستقلالية الفعلية لرئيس الحكومة، أم أن الثقافة السياسية السائدة وطبيعة الحقل الحزبي تجعل من “الاستقلال” مجرد نص جميل على الورق؟

تُظهر التجربة السياسية منذ 2011 أن النصوص وحدها غير كافية لتغيير بنية السلطة أو عقلية الفاعلين السياسيين.

فغياب أحزاب قوية قادرة على التفاوض بشجاعة، وضعف البرلمان في القيام بوظيفة الرقابة، جعل الكثيرين ينظرون إلى رئيس الحكومة كشخص لا يملك القرار حتى في ظل النص الجديد.

إن مبدأ “ربط المسؤولية بالمحاسبة”، كما جاء في الفصل الأول من الدستور، يقتضي أن تكون المساءلة سياسية وشعبية أولاً، أي عبر صناديق الاقتراع والمؤسسات المنتخبة، لا عبر القرارات الفردية أو الضغوط غير الرسمية.

فالديمقراطية البرلمانية تفترض أن تكون الحكومة مسؤولة أمام ممثلي الأمة، وأن يظل الملك حكماً وضامناً للسير العادي للمؤسسات، لا طرفاً في الصراعات السياسية اليومية.

من هنا، فإن تفعيل دستور 2011 يتطلب إرادة سياسية حقيقية لإعادة الاعتبار للعمل الحزبي والبرلماني.

فبدون أحزاب قوية قادرة على صياغة برامج واضحة والدفاع عنها، وبرلمان يملك الجرأة على مساءلة الحكومة وإسقاطها إذا اقتضى الأمر، سيظل الجدل دائراً حول سؤال الإقالة بدل مساءلة جوهر الأداء الحكومي نفسه.

وعلى الرغم من ذلك، لا يمكن إنكار أن دستور 2011 منح المغرب فرصة نادرة لتوسيع دائرة المشاركة الشعبية في السلطة التنفيذية، غير أن التحدي اليوم يكمن في بناء ثقافة سياسية تحترم النص وتلتزم بروحه.

فالانتقال من “ملكية تنفيذية” إلى “ملكية برلمانية” ليس قراراً دستورياً فحسب، بل هو مسار طويل من الإصلاح الثقافي والسياسي والمؤسساتي.

إن هذا النقاش يُبرز الحاجة الملحة إلى ترسيخ استقلالية القرار الحزبي، وإعادة الثقة في العملية الانتخابية كمدخل وحيد للتغيير السياسي، بدل العودة إلى خطاب “التعيين والإقالة” الذي تجاوزه الدستور الجديد. فالديمقراطية لا تترسخ إلا بوجود قواعد واضحة، ولا تُحمى إلا بمؤسسات قوية ومجتمع مدني يقظ، وبرلمان يمارس وظيفته الرقابية بفعالية.

ولعل ما يُخيف في المشهد السياسي المغربي ليس النصوص بقدر ما هو غياب الإرادة الصادقة لتفعيلها. فحين يُترك البرلمان ضعيفاً، والأحزاب مشلولة، والرأي العام غير مبالٍ، يصبح النص الدستوري مجرّد واجهة لا تحمي التحول الديمقراطي.

إن إعادة الاعتبار لمقتضيات الفصلين 47 و96 وغيرهما من الفصول الناظمة للسلط هي معركة وعي سياسي قبل أن تكون معركة قانونية. وهي معركة يشارك فيها الفاعل الحزبي، والمثقف، والإعلامي، والناخب، وكل من يطمح إلى نظام سياسي حديث يقوم على توازن السلط وسيادة القانون.

ختاماً، يبقى القول إن دستور 2011 وضع القواعد العامة لانتقال السلطة التنفيذية إلى المجال السياسي المنتخب، لكنه لم ينجز المعركة بعد. فالمستقبل مرهون بقدرة الفاعلين على حماية هذه المكاسب، وبوعي المجتمع بأن الديمقراطية لا تتحقق بإعطاء الصلاحيات، بل باستخدامها وحمايتها من كل ارتداد.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *