هل يحتاج المغرب لإسرائيل… أم يحتاج بعض المغاربة إلى تصحيح المفاهيم؟

هل يحتاج المغرب لإسرائيل… أم يحتاج بعض المغاربة إلى تصحيح المفاهيم؟
بقلم: طلوع عبدالإله – باحث في القانون العام والعلوم السياسية

حين تتحوّل القضية الفلسطينية من موقف شعبي إلى أداة تشويش سياسي!

هل يُعقل أن تتحوّل مسيرات تضامنية شعبية مليونية، خرج فيها المغاربة من كل فجّ عميق نصرةً لفلسطين، إلى ما يُشبه “الحاجة التكتيكية” للدولة المغربية؟
وهل من المنطقي أن نُسقط على هذا الحضور الشعبي الجارف تأويلات انتهازية، تختزل موقفًا وطنيًا نبيلًا في لحظة انفعالية، وتحوّله إلى مادة خام لتغذية سرديات تُخدم أجندة دعاة “التطبيع بلا قيد ولا شرط”؟

منذ المسيرات الكبرى التي شهدتها الرباط ومدن أخرى، تقاطرت التحليلات المرتجلة، وتسابق البعض إلى إطلاق أحكام جاهزة لا تخلو من المغالطة والتهويل.
وها نحن نسمع، بكل ثقة – بل بكل استخفاف بالعقل السياسي – من يزعم أن هذه المسيرات كانت “دليل ضعف”، وأن الدولة المغربية “انحنت أمام ضغط الشارع”، وكأننا بإزاء مسرحية هشة لا دولة ذات سيادة وحكمة في إدارة التوازنات.

ثم يذهب الخيال بالبعض أبعد من ذلك، فيربط بين المسيرات وبين اعتراف واشنطن بمغربية الصحراء، مدعيًا أنه لولا من قالوا “كلنا إسرائيليون” لما نالت المملكة ذلك الاعتراف.
أي منطق أعوج هذا؟
هل هذا تحليل سياسي، أم تمرين في الهرطقة الدبلوماسية باسم التحليل؟

وهنا، لا بد أن نسأل:
منذ متى كانت السيادة الوطنية المغربية مرهونة بإسرائيل؟
ومن ذا الذي أقنع هؤلاء بأن الرباط لا تستطيع تثبيت حقوقها الترابية دون إذن تل أبيب أو إيماءة من واشنطن؟

إن الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء لم يكن صدقة، ولا رشوة عاطفية قدمتها الدولة المغربية في شكل “تنازل” أو “اصطفاف”، بل كان ثمرة عقود من العمل الدبلوماسي الرصين، المؤطر برؤية استراتيجية طويلة النفس، جعلت من المغرب فاعلًا متّزنًا في محيطه الإقليمي والدولي، لا تابعًا يتسوّل الشرعية من قوى الخارج.

إن المسيرات الشعبية لم تكن في جوهرها اعتراضًا على الدولة، بل كانت تذكيرًا بأن قضية فلسطين لا تزال حاضرة في ضمير هذا الشعب، وأن هذا الضمير ليس ورقة يمكن شطبها بجرة قلم أو إقناعها بخطاب فوقي.
لقد كانت رسالة مزدوجة الاتجاه:

للداخل، لتؤكد أن هناك وعيًا جمعيًا يتجاوز الإشارات الرسمية، ويتشبّث بعقيدة التضامن دون إذن.

وللخارج، لتبعث برسالة واضحة مفادها أن دعم المغرب لفلسطين لا يتناقض مع سيادته على ترابه، وأن من يراهن على خلق تناقض بين القضيتين، إنما يجهل طبيعة هذا البلد وتاريخه.

ثم، من الذي قرر أن انتقاد التطبيع هو موقف معادٍ للدولة؟
ومن الذي اخترع هذه الثنائية الزائفة بين الولاء للوطن ورفض التطبيع؟
هل أصبحت الوطنية تُقاس بمدى القرب من إسرائيل؟ وهل صار الموقف من تل أبيب هو ميزان الانتماء؟
أم أن الانتماء الأصيل يُقاس بقدرتك على الانسجام مع الضمير الجمعي لشعبك، لا مع مصالح ظرفية تُبنى على رمال متحركة؟

الواقع أن من يعتقد أن المغرب بدون إسرائيل ضعيف، فهو ضحية تصور هش للسيادة.
ومن يتوهم أن الطريق إلى القدس يمر عبر أزقة الحي الدبلوماسي بالرباط، فهو تائه في خرائط لا يعرف كيف رُسمت، ولا لماذا.

ثم دعونا نسأل، بصراحة فلسفية لا تعرف المجاملة:
ما معنى أن يُصوَّر المغرب كدولة تترقب “رضا إسرائيل” لتثبيت شرعيتها الترابية؟
أليس هذا تقزيمًا لصورة الدولة أكثر من كونه دعمًا لها؟
أليس هذا خطابًا يُضعف الدولة في الخارج من حيث يزعم الدفاع عنها في الداخل؟

وهل من الوطنية أن نخوّن الشعب حين يعبر عن موقفه، ونُحيله إلى قوائم الاتهام والشك، فقط لأنه قال: كلنا فلسطينيون؟

إن أخطر ما في المرحلة ليس التطبيع ذاته، بل تبريره بتفكيك الوعي.
الخطر ليس في وجود علاقة مع إسرائيل، بل في محاولة إعادة تعريف الوطنية لتصبح مرادفًا للصمت، والتبعية، وقبول كل شيء.

الوطن ليس معادلة تسويقية، ولا وجبة دبلوماسية سريعة. الوطن، ببساطة، هو ما نشعر أنه يستحق أن نختلف حوله، لا أن نصمت عنه.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *