نقطة نظام… عن الحرية والنظام في زمن الاحتجاج

نقطة نظام… عن الحرية والنظام في زمن الاحتجاج
بقلم: الدكتور عبد الإله طلوع – باحث في العلوم السياسية وقضايا الشباب

هل يمكن للديمقراطية أن تزدهر بلا شارع حيّ ينبض بالاحتجاج؟ وهل يمكن للشارع أن يحيا بلا دستور يحمي أصواته من عسف السلطة وعنف الفوضى معاً؟
هذان السؤالان يلازمان التجربة المغربية منذ 2011، تاريخُ الوثيقة الدستورية التي نقلت علاقة الدولة بالمجتمع من منطق الامتيازات الممنوحة إلى منطق الحقوق الأصيلة.

الدستور المغربي لسنة 2011 لم يُصغ ليرضي ظرفاً سياسياً عابراً، بل أقرّ أن التظاهر وحرية التعبير حقوقٌ كونية لا يمكن أن تُختزل في هِبة أو يُرهن تفعيلها بلحظة مزاج سياسي. أليس هذا التحول في حدّ ذاته تعبيراً عن وعيٍ جماعي بأن المواطنة الحقيقية لا تستقيم بلا صوت مسموع وبلا قدرة على الاعتراض السلمي؟

لكن، هل الحرية بلا قيدٍ فضيلة أم فوضى؟
ينصّ الدستور نفسه على أنّ ممارسة هذه الحقوق مرتبطة بواجب حماية النظام العام وصيانة كرامة الأفراد وحماية الممتلكات العامة والخاصة. فالتظاهر ليس فوضى، بل تعاقد سياسي وأخلاقي بين الدولة والمجتمع: يلتزم الشعب بالسلمية والرقّي في التعبير عن مطالبه، وتلتزم الدولة بضمان الحماية للمتظاهرين وإصغاءٍ جادٍّ لرسائلهم.

أي معنى إذن أن يتحول الاحتجاج أحياناً إلى تخريب أو اعتداء على الممتلكات؟ وأي مغزى أن يتحول تدخل السلطات أحياناً إلى عنفٍ مفرط يطعن روح الدستور في الصميم؟
هنا يطلّ السؤال الجوهري: كيف نوازن بين الحرية والنظام؟
ليس المطلوب أن تكون الحرية على حساب الأمن، ولا الأمن على حساب الحرية.

فالديمقراطية ليست نقيض الدولة، بل هي اكتمال حضورها كحامٍ للحقوق والكرامة في آنٍ واحد.

لقد أراد المشرّع الدستوري المغربي أن يبعث برسالة واضحة:
الحرية لا تُعاش خارج سلطة القانون، والنظام لا يُصان بالقمع، بل بحماية الحرية ذاتها، ومن ثمّ، فإنّ الاحتجاج السلمي هو أداة إصلاحية، لا أداة للهدم، وفضاؤه الطبيعي الشارع، حيث يلتقي المواطنون على فكرة التغيير في إطار احترام قواعد الدولة.

ألا يستدعي هذا النموذج المغربي، القائم على إصلاح في إطار الاستقرار، أن يُصان من طرف الجميع؟
فالدولة مدعوة إلى تطوير أساليبها في تدبير الحركات الاجتماعية بما يرسّخ الثقة بدل أن يثير الخوف، والحركات الاحتجاجية مطالبة بأن تصون سلميتها وتحمي الشرعية الأخلاقية لنضالها.

كيف يمكن أن نُعزّز ثقة الشباب في جدوى التظاهر إذا كانت مطالبهم تواجه بالتجاهل أو بالعنف؟ وكيف نُقنع فئات واسعة من المجتمع بأهمية المشاركة في الحياة العامة إذا ظلّت ترى أن صوت الشارع لا يُصغي إليه إلا حين يعلو بالصراخ؟

إنّ قوة التجربة المغربية تكمن في ربط الحق بالواجب، والحرية بالمسؤولية، فلا حرية من دون احترام القانون، ولا نظام عام من دون فضاءات مفتوحة للنقد والاحتجاج، ولعلّ أكبر تهديد لأي ديمقراطية ناشئة ليس أصوات الشارع، بل كتم تلك الأصوات أو الانزلاق بها إلى العنف.

فهل نملك اليوم الشجاعة لإعادة تعريف الاحتجاج كسلوك حضاري لا كحالة طوارئ؟
وهل تملك الدولة والحركات الاجتماعية معاً الإرادة لصوغ ميثاق أخلاقي جديد يجعل الشارع مدرسةً للديمقراطية لا ساحةً للفوضى؟

إنّ التحدي ليس قانونياً فقط، بل ثقافيّ أيضاً: كيف نعلّم أبناءنا أن التظاهر امتدادٌ للمواطنة، وأن حرق الإطارات أو تخريب الممتلكات ليس احتجاجاً بل نقيضه؟ وكيف نعيد الاعتبار لثقافة الحوار كخط دفاع أول عن الاستقرار بدل اللجوء المتبادل إلى الشارع والقوة؟

إنّ الدستور المغربي لسنة 2011 رسم الطريق: حرية التعبير والتظاهر حقوقٌ أصيلة، لكنها لا تُمارس في فراغ أخلاقي أو سياسي، بل ضمن منظومةٍ تجعل الحرية في خدمة النظام، والنظام في خدمة الحرية.

هكذا فقط يمكن أن نحافظ على قوة النموذج المغربي:

إصلاح في إطار الاستقرار.

حرية في كنف المسؤولية.

ديمقراطية تحمي الوطن ولا تدفعه إلى الانزلاق.

أليس هذا هو العقد الاجتماعي الذي حلم به المغاربة حين صوتوا على دستور 2011؟
السؤال مفتوح، والجواب رهين بمدى قدرتنا – دولةً ومجتمعاً – على الوفاء بروح ذلك العقد.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *