ملاعب القرب وعدم التوازن الرياضي التنموي: نحو سياسة تقصي التنوع وتكرس قطب كرة القدم الواحد.
خلال العقدين الأخيرين، شهد المغرب طفرة كبرى في بناء ملاعب القرب المعشوشبة لكرة القدم المصغرة، حتى أصبحت هذه المنشآت حاضرة في معظم الأحياء والمراكز القروية.
ورغم أن هذا التوجه أسهم في توفير فضاءات للشباب ومحاربة الفراغ والانحراف، إلا أن توسعه غير المتوازن كشف عن اختلالات بنيوية في السياسات الرياضية الوطنية، حيث بات التركيز موجها نحو كرة القدم حصرا، بينما تعاني باقي الرياضات من إهمال مزمن وغياب للفضاءات اللازمة للتدريب والممارسة.
هذه الظاهرة لم تعد مجرد خيار للتهيئة العمومية، بل أصبحت سياسة ممنهجة تُكرّس القطب الرياضي الواحد، وتضع مستقبل التنوع الرياضي في المغرب على المحك.
*أولا: هيمنة ملاعب القرب وبروز خلل بنيوي في التخطيط الرياضي:
تبني مختلف الجماعات الترابية، بشكل متسارع وغير مؤطر برؤية استراتيجية، مشاريع ملاعب القرب مخصصة لكرة القدم فقط.
ويكاد هذا التوجه أن يكون هو السمة الغالبة لكل مشاريع التهيئة الرياضية الحديثة.
ورغم أهمية هذه الملاعب في تشجيع الممارسة الرياضية، إلا أن إفرادها بالنصيب الأكبر من الاستثمارات يعكس غياب تخطيط شامل يراعي حاجيات مختلف الفئات المجتمعية والتخصصات الرياضية.
إن تركيز البنيات التحتية على نوع واحد من الرياضة يجعل باقي الرياضات تبدو كما لو أنها ثانوية أو غير مهمة، وهو ما يكرس اختلالا كبيرا في مفهوم المرفق العمومي الرياضي.
*ثانيا: إقصاء الرياضات الأخرى وتضييق فرص التنشئة المتوازنة:
أمام هذه الهيمنة، تصبح ممارسة الرياضات الأخرى شبه مستحيلة في العديد من المناطق. فلا وجود لملاعب كرة السلة أو الكرة الطائرة في معظم الجماعات، ولا لمضامير ألعاب القوى، ولا لقاعات متعددة التخصصات، ولا لفضاءات للتنس أو الجمباز أو السباحة.
هذا الإقصاء ينتج:
-حرمان الأطفال من اكتشاف مواهبهم الطبيعية:
قد يكون الطفل موهوبا في ألعاب القوى، أو في الجمباز، أو في السباحة، لكن غياب البنية التحتية يجبره على ممارسة كرة القدم لأنه لا يملك بديلاً.
-تقليص التنوع الرياضي الوطني:
المغرب، الذي كان يُخرّج أبطالاً عالميين في ألعاب القوى والملاكمة ورياضات أخرى، بدأ يفقد تدريجياً هذا التنوع لصالح تفريخ لاعبين في رياضة واحدة.
-ظهور ثقافة رياضية مسطحة:
تختزل الرياضة في المخيال الشعبي في كرة القدم فقط، بينما يتم تجاهل الفوائد البدنية والنفسية والاجتماعية للأنشطة الرياضية الأخرى.
*ثالثا: تأثير ملاعب القرب على منظومة التكوين الرياضي
إنشاء عشرات الآلاف من ملاعب القرب خلق دينامية قوية في مجال الفوتصال وكرة القدم المصغرة، مما أدى إلى بروز المنتخب الوطني للفوتصال كمنافس قوي على المستوى العالمي.
لكن هذا النجاح الظرفي يخفي وراءه اختلالاً هيكلياً يتمثل في:
-انحسار التكوين في مجال واحد:
تصبح المؤسسات الرياضية، الجمعيات، والمربون الرياضيون، موجهين نحو تكوين لاعبي كرة القدم فقط، بينما تندثر مدارس رياضية أخرى.
-غياب أبطال مغاربة في تخصصات تحتاج إلى تكوين مستمر:
الرياضات الفردية مثل ألعاب القوى، التنس، الجمباز، السباحة، تعرف تراجعاً لغياب فضاءات التدريب الأساسية.
-تكريس اقتصاد رياضي أحادي:
الاقتصاد الرياضي المحلي (معدات، تأطير، بطولات محلية) أصبح مرتبطا بالكرة فقط، مما يعطل ظهور صناعات موازية خاصة بغيرها من الرياضات.
*رابعا: تداعيات اجتماعية وصحية وتنموية:
إن عدم التوازن في العرض الرياضي ينعكس على المجتمع في عدة مستويات:
-صحة المجتمع:
الرياضات المختلفة تمتلك فوائد مختلفة.
اللعب الجماعي، القوة، المرونة، التحمل… كلها مهارات لا يمكن أن توفرها كرة القدم وحدها.
-تكافؤ الفرص:
فئات واسعة، خصوصاً الفتيات، لا تجد فضاءات ملائمة لممارسة الرياضات التي تناسبهن.
كما أن الأطفال ذوي البنيات الجسدية المختلفة يُدفعون إلى ممارسة رياضة قد لا تناسبهم.
-تهميش المناطق القروية:
رغم انتشار ملاعب القرب، يبقى غياب المرافق المتنوعة في القرى أكثر حدة، ما يزيد من الفوارق الاجتماعية والرياضية.
-فقدان الهوية الرياضية المتنوعة للمغرب:
كان المغرب في السبعينات والثمانينات والتسعينات يُنتج أبطالاً عالميين في ألعاب القوى والملاكمة والجيدو وغيرها.
أما اليوم فنعرف انفجارا في أعداد لاعبي كرة القدم على حساب بقية التخصصات.
*خامسا: غياب رؤية شمولية للتنمية الرياضية:
يبقى الخلل الأكبر هو تشتت السياسات الرياضية وغياب رؤية وطنية تعتمد التنوع كركيزة أساسية.
فلو كانت ملاعب القرب جزءا من تصور شامل يتضمن:
-قاعات متعددة الرياضات
-مضامير لألعاب القوى
-مسابح نصف اولمبية
وجماعية
-فضاءات للرياضات الحضرية (Skate, Parkour…)
-قاعات للتايكواندو والجيدو والكاراطي
-ملاعب للكرة الطائرة والسلة كرة اليد
-خططا لدعم الرياضة النسوية
-توزيعا عادلا حسب المناطق
لكانت السياسة الرياضية المغربية أكثر عدلا وإنصافاً وفعالية.
لكن الواقع يظهر أننا نتجه نحو تعميق فجوة التوازن الرياضي التنموي، مما يهدد مستقبل الرياضات المتنوعة في البلاد.
*سادسا: نحو مقاربة جديدة تعيد الاعتبار للتنوع الرياضي:
لتجاوز اختلالات هذه السياسة، يحتاج المغرب إلى:
-إعادة التوازن في الاستثمار الرياضي
-تخصيص نسب معينة من المشاريع لغير كرة القدم.
-وضع مخطط وطني للتنوع الرياضي
يحدد احتياجات كل منطقة ويضمن العدالة الرياضية الترابية.
-دعم الأندية والجمعيات متعددة التخصصات
لأنها شريك رئيسي في التنشئة الرياضية.
-إدماج الرياضات المهمشة في المدارس
فالمدرسة هي الرافعة الأساسية لاكتشاف المواهب.
-تعزيز دور الجامعات والمعاهد الرياضية
بناء منظومة تكوين قادرة على إنتاج مؤطرين متخصصين في مختلف الرياضات.
*ختاما إن ملاعب القرب وعدم التوازن الرياضي التنموي عنوان يلخص واقعا يجب التعامل معه بجدية.
فالمغرب، بلد المواهب والتنوع، لا يمكن أن يبني مستقبله الرياضي على رياضة واحدة، مهما كانت شعبيتها.
إن التنمية الرياضية الحقيقية تقوم على:
العدالة
التنوع
التوازن
الرؤية الشمولية
وهي مبادئ غائبة اليوم في ظل هيمنة ملاعب القرب على الخارطة الرياضية الوطنية.
المراجع:
*اليونسكو : التربية البدنية الجيدة: مبادئ توجيهية لصناع السياسات، 2015.
*منظمة الصحة العالمية : الخطة العالمية للنشاط البدني 2018–2030.
*مجلس أوروبا: مبادئ السياسة الرياضية، النسخة العربية، 2019.
*وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة :تقارير البنيات التحتية الرياضية في المغرب.
*أبحاث جامعية مغربية في مواضيع: التنمية الرياضية الترابية، تدبير المرفق الرياضي، سياسات التنوع الرياضي في المغرب.

