مشاهد السلطة بين رمزية الهيبة ومتطلبات الدولة الحديثة: قراءة في حدود الخطاب الإداري
بقلم: الدكتور عبد الإله طلوع
باحث في العلوم السياسية وقضايا الشباب
لا يمكن للمتتبع للشأن العام أن يتجاهل الصور والمشاهد التي ظهرت مؤخراً في بعض الأنشطة الرسمية، حيث بدا جزء من رجال السلطة يميلون إلى إبراز “الهيبة” وطقوس الاستعراض أكثر مما يميلون إلى لغة الخدمة العمومية. وهي مشاهد أعادت إلى السطح أسئلة حول طبيعة السلطة في المغرب، وحول حدود التحديث الإداري الذي انخرطت فيه الدولة منذ عقدين على الأقل.
لقد قطع المغرب مساراً مهماً نحو إعادة تعريف العلاقة بين المواطن والمؤسسة، وأصبح خطاب الدولة يقوم تدريجياً على النجاعة، القرب، واحترام ذكاء المجتمع، غير أن بعض الممارسات التي تَسْطَعُ بين الحين والآخر تعطي الانطباع بأن نموذج “السلطة الحامية” لم ينته بعد، وأن بعض تمثلات الماضي ما تزال تتسرب إلى الواقع، وكأن الزمن المؤسساتي يمكن أن يتراجع حين يغيب التأويل السليم للدستور ولروح المؤسسة.
إن الإدارة المغربية بحاجة إلى الحزم والسرعة في اتخاذ القرار، وهذا أمر لا يختلف حوله اثنان.
لكن الإشكال يظهر عندما يتحول الحزم إلى استعراض، وتنقلب الفعالية إلى إشارة رمزية هدفها تعزيز صورة الذات بدل خدمة المرفق العام.
فالقوة التي لا يلمس المواطن أثرها في تحسين التعليم والصحة والتنمية، تبقى قوة شكلية مهما علت نبرتها أو تعددت “طقوسها”.
كما أن التوازن بين السلطة المعينة والسلطة المنتخبة ليس مجرد تفاصيل تقنية داخل الدستور، بل هو جوهر العملية الديمقراطية. فعندما يتوسع التأويل الإداري ليغطي على المساحات التي منحها الدستور للانتخاب وللتمثيل، فإننا نكون أمام حالة انزياح مؤسساتي يهدد مسار التراكم الديمقراطي الذي تعب المغاربة طويلاً من أجل تثبيته.
المثقفون، الأساتذة، والفاعلون المدنيون ليسوا متفرجين في هذا النقاش، بل هم جزء من بنيته النقدية، فهم الأكثر إدراكاً لطبيعة التحولات التي عرفها المجتمع المغربي، والأكثر قدرة على فهم أن المواطن اليوم لم يعد يتفاعل مع السلطة كما كان يفعل قبل سنوات. مجتمع اليوم أكثر طلباً للوضوح، أكثر حساسية تجاه السلوك الرمزي، وأكثر انتظاراً لمؤسسة تشتغل عبر الجودة لا عبر الحركة، وعبر القرب لا عبر العلو.
إن ما تحتاجه السلطة اليوم ليس المزيد من الإشارات الفوقية، بل بناء لغة جديدة للتواصل مع المواطن: لغة أساسها الشفافية، الكفاءة، والاحترام المتبادل.
فالمؤسسة التي تريد أن تكون قوية لا تحتاج إلى رفع الصوت، بل إلى تقوية المرفق؛ ولا تحتاج إلى الإبهار، بل إلى الإقناع؛ ولا تحتاج إلى إثبات الوجود، بل إلى إنجاز هذا الوجود داخل الواقع اليومي للناس.
الصور الأخيرة لم تكن مجرد تفاصيل عابرة، بل كانت مرآة لعمق سؤال السلطة في المغرب: أي نموذج نريد؟ هل نريد سلطة تَستمد قوتها من طقوس الانضباط التقليدي، أم سلطة حديثة تستمد شرعيتها من أدائها ومن قدرتها على تطوير الحياة العامة؟
الجواب ليس معقداً: المغرب الذي يسير نحو الدولة الاجتماعية، والديمقراطية المتوازنة، والجهوية المتقدمة، لا يمكن أن يقبل بعودة أنماط قديمة، ولو في هيئة “استعراض رمزي”. المطلوب اليوم هو انسجام السلطة مع المشروع الحداثي الذي يتطلع إليه المغاربة، انسجام في الخطاب، وفي السلوك، وفي توجيه القرار.
فالمؤسسة التي تحترم المجتمع، هي نفسها المؤسسة التي يحترمها المجتمع.

