مجلس وزاري في زمن الدقة الاستراتيجية: حين تتحول الأرقام إلى رؤية دولة

في زمن تتسارع فيه التحولات الإقليمية والدولية، وتشتد فيه التحديات الاقتصادية والاجتماعية، عقد جلالة الملك محمد السادس، يوم 19 أكتوبر 2025، مجلساً وزارياً بالرباط، جاء بمثابة حدث وطني فارق في ضبط بوصلة الدولة وتحديد أولوياتها للسنة المالية 2026، لم يكن المجلس لحظةً بروتوكولية أو عرضاً للحسابات التقنية، بل تجسيداً فعلياً لما يمكن تسميته بـ”الدقة الاستراتيجية” في تدبير شؤون الدولة.
فمشروع قانون المالية لسنة 2026، الذي شكّل محور هذا المجلس، ليس مجرد وثيقة رقمية، بل إعلانٌ عن توجه اقتصادي واجتماعي متكامل. فالنمو المتوقع بنسبة 4.8%، والتضخم المحصور في حدود 1.1%، وعجز الميزانية الذي لا يتجاوز 3.5%، تعكس كلها حرص الدولة على الموازنة بين طموح التنمية واستقرار التوازنات الماكرو–اقتصادية، وهي معادلة دقيقة، تُدار في ظل ظرفية عالمية متقلبة وأسواق مضطربة ومناخ دولي يسوده الحذر الاقتصادي.
لقد رسم المجلس الوزاري معالم سنة مالية مختلفة، تُبنى على أربع أولويات كبرى تعكس الرؤية الملكية في تنزيل النموذج التنموي الجديد:
أولاً، دعم الاستثمار والمقاولات والشغل باعتبارها المحرك الحقيقي للنمو، لا سيما عبر تفعيل الميثاق الجديد للاستثمار الذي يعيد الثقة للقطاع الخاص.
ثانياً، التنمية المجالية المندمجة عبر تقوية التعليم والصحة، بميزانية ضخمة تناهز 140 مليار درهم، في إشارة واضحة إلى أن التنمية لا تتحقق دون رأسمال بشري مؤهل ومواطن يتمتع بخدمات أساسية لائقة.
ثالثاً، توطيد الدولة الاجتماعية من خلال الحماية الاجتماعية، والدعم المباشر، والتعويضات العائلية، وهي خطوة نوعية في مسار تحويل العدالة الاجتماعية من شعارٍ إلى واقعٍ ملموس.
رابعاً، الإصلاحات الهيكلية والحكامة المالية، وهي البنية الخفية التي بدونها تفقد كل السياسات فعاليتها واستدامتها.
غير أن ما يثير الانتباه في مخرجات هذا المجلس هو البعد المؤسساتي الذي حملته المصادقة على أربعة مشاريع قوانين تنظيمية تهم الحياة السياسية والدستورية (النواب، الأحزاب، المحكمة الدستورية، الدفع بعدم الدستورية). وهي مشاريع تعيد ضبط المشهد الحزبي والبرلماني وفق منطق التجويد المؤسساتي وربط المسؤولية بالمحاسبة، بما يعزز الثقة في المسار الديمقراطي.
أما المصادقة على المرسومين العسكريين، الأول المرتبط بأمن نظم المعلومات، والثاني بالمدرسة الملكية للصحة العسكرية، فتؤكد أن الأمن الرقمي والصحي أصبحا ركيزتين استراتيجيتين للأمن القومي، وهو توجه ينسجم مع مقاربة شمولية للأمن الوطني التي أرسى دعائمها الملك في أكثر من مناسبة.
من جهة أخرى، حملت التعيينات الجديدة لـ15 والياً وعاملاً عبر عدد من الجهات والأقاليم، وتعيين طارق الصنهاجي على رأس الهيئة المغربية لسوق الرساميل، إشارات واضحة إلى تجديد النخب الإدارية والاقتصادية، وتفعيل مبدأ الكفاءة وربط المسؤولية بالنتائج.
فالتدبير الجهوي والاقتصادي لم يعد يحتمل منطق “الرتابة”، بل يحتاج نفساً جديداً يواكب التحولات ويترجم المشاريع الملكية على أرض الواقع.
في عمق هذه القرارات، يمكن قراءة منحى الدولة نحو توطيد نموذجٍ جديد في الحكامة: نموذج يربط الرؤية الاقتصادية بالعدالة الاجتماعية، ويجعل من الإصلاح المالي أداة لتحقيق الاستقرار السياسي، ومن الاستثمارات العمومية والخاصة رافعة لتقوية السيادة الاقتصادية.
إن المجلس الوزاري الأخير يعكس فلسفة الحكم في عهد محمد السادس، حيث لم تعد التنمية مجرد مسألة رقمية أو قطاعية، بل رؤية استراتيجية متكاملة، قوامها الدقة في الأهداف، والصرامة في التنفيذ، وربط السياسات العمومية بمردوديتها الواقعية على حياة المواطنين.
لقد بدا واضحاً أن الدولة تدخل مرحلة جديدة من العقلنة الصارمة، عنوانها الكبير: لا نفقات بدون جدوى، ولا برامج بدون أثر، ولا إصلاح بدون كفاءة.
وهي رسالة موجهة إلى كل الفاعلين في الحقل السياسي والإداري مفادها أن المرحلة المقبلة لن تقبل التردد أو العبث، لأن الرهان اليوم هو ربح معركة الزمن والتنمية في آنٍ واحد.
في النهاية، يمكن القول إن مجلس 19 أكتوبر 2025 لم يكن مجرد اجتماع وزاري، بل جلسة لقراءة المستقبل بلغة الأرقام والرؤية والجرأة الإصلاحية.
مجلس يختزل روح دولة تعرف ما تريد، وتعرف كيف تصل إليه.