مجالس البلطجة… انحطاط التمثيل واغتيال السياسة

في الوقت الذي تنادي فيه التوجيهات العليا إلى تخليق الحياة العامة، وإرساء دعائم الحكامة الجيدة، وتمكين المواطن من تمثيل مؤسساتي نزيه يعكس إرادته وكرامته، نجد أنفسنا أمام مشهد سياسي محلي متهالك، تحكمه الفوضى، وتطغى عليه لغة الانفعال بدل لغة الحوار، والعراك بدل النقاش. لقد تحولت بعض المجالس المنتخبة، التي كان يُفترض أن تكون مؤسسات للتفكير والتخطيط، إلى ساحات صراع تُدار فيها الحروب الصغيرة بعقلية الزنقة لا بعقل الدولة.
ما يجري اليوم في عدد من الجماعات الترابية ليس مجرد انزلاقات عرضية، بل هو تجلٍّ صارخ لأزمة قيم وأخلاق وسياسة. إنها النتيجة الحتمية لسنوات من التزكية العشوائية والزبونية الانتخابية، ولتفشي ثقافة الولاء بدل الكفاءة، والمصلحة الشخصية بدل المصلحة العامة. فحين يصبح المجلس الجماعي مسرحاً للسبّ والتخوين، ويغيب فيه صوت العقل، ويُسكت فيه صوت المواطن، فنحن لا نتحدث عن خلل في التدبير، بل عن انهيار في المفهوم ذاته للتمثيل الديمقراطي.
لقد جُعلت الانتخابات وسيلة لتقاسم الغنائم بدل أن تكون مدخلاً للتنمية المحلية. وتحوّل المرفق العام إلى حلبة تصفية حسابات، ووسيلة لتثبيت النفوذ الشخصي، فيما اختُزل العمل الجماعي في تدبير مصالح ضيقة وولاءات حزبية هشة. وهكذا سقطت السياسة في براثن البلطجة المؤسساتية، وتراجع الإيمان برسالتها النبيلة.
لا يمكن للوطن أن يُبنى على أساس مجالس عاجزة عن إنتاج نقاش راقٍ ومسؤول. فالمشهد الذي تُطل به بعض المجالس على الرأي العام بات مشيناً إلى حدّ الإهانة، يسيء لصورة المنتخب ولرمزية المؤسسة، ويغرس في الوعي الجماعي فكرة قاتلة مفادها أن السياسة مرادف للفوضى والانحطاط. وإذا كانت الدولة تراهن على اللامركزية كرافعة للتنمية، فإن استمرار هذا الوضع يفرغ المشروع برمّته من روحه وجوهره.
إن المسؤولية هنا جماعية ومتعددة المستويات. فالأحزاب التي تكتفي بتزكية المرشحين دون غربلة فكرية وأخلاقية تتحمل قسطاً وافراً من هذا الخراب، لأنها سمحت بتسرب أشخاص إلى المؤسسات لا يملكون الحد الأدنى من اللياقة السياسية أو الدراية التمثيلية. كما أن المواطن الذي يصوّت بدافع العصبية أو المصلحة الشخصية، دون وعي بوزن صوته ومسؤوليته، يشارك هو الآخر في إعادة إنتاج الرداءة نفسها.
لقد أصبح المشهد المحلي اليوم مرآة عاكسة لتراجع الحس المدني، وانكسار الثقة بين المواطن والمؤسسة المنتخبة. ومتى غابت الثقة، غابت المشاركة، وانهارت الشرعية الأخلاقية التي هي أساس كل ديمقراطية حقيقية. من هنا، فإن المعركة المقبلة ليست انتخابية بقدر ما هي معركة وعي، معركة إعادة بناء المواطن قبل إعادة بناء المجلس.
إن المطلوب ليس فقط تدخل وزارة الداخلية لإعادة الانضباط، بل تدخل الضمير الوطني لإعادة الاعتبار لقيمة الانتخاب. فالإصلاح لا يتحقق بالمذكرات ولا بالبلاغات، بل بإعادة رسم الحدود بين من يخدم الدولة ومن يستغلها، بين من يملك مشروعاً ومن يملك مطمعاً، بين من يطمح إلى التغيير ومن يطمع في التعويض.
لقد آن الأوان لأن نواجه الحقيقة بجرأة: لا تنمية بدون مجالس نزيهة، ولا ديمقراطية بدون أخلاق، ولا تمثيل بدون وعي. ومادامت قاعات المجالس تُدار بعقلية المقهى لا بعقلية المؤسسات، فستظل التنمية رهينة العبث، وسيظل المواطن آخر من يُستشار وأول من يُعاني.
إن المغرب الذي يبني أقاليمه ويُعيد هيكلة مؤسساته لا يمكن أن يسمح بأن تظل بعض جماعاته غارقة في زمن “البلطجة السياسية”. فالدولة القوية تحتاج إلى مجالس قوية، والمجالس القوية تحتاج إلى رجال دولة لا إلى صُنّاع الفوضى.
ولعل أكبر رهان اليوم هو أن نعيد للسياسة معناها الشريف، وللانتخاب قيمته الأخلاقية، وللمجلس هيبته المؤسساتية. فبدون ذلك، سنبقى ندور في حلقة العبث، نُغيّر الوجوه ولا نُغيّر السلوك، ونُنتج المجالس ذاتها بنفس الرداءة، وننتظر نتائج مختلفة.