متى تتصالح الدولة مع جهاز التفتيش؟ مأساة مفتشتين تكشف هشاشة القطاع وعمق الحيف المهني

متى تتصالح الدولة مع جهاز التفتيش؟ مأساة مفتشتين تكشف هشاشة القطاع وعمق الحيف المهني

بقلم الدكتور عبد الإله طلوع – باحث في العلوم السياسية وقضايا الشباب

تعيد المأساة التي فقدت فيها منظومة التربية الوطنية مفتشتين شابتين إلى الواجهة سؤالاً قديماً ظل يتكرر دون أن يجد فعلاً مؤسسياً حاسماً، يتعلق الأمر بظروف العمل القاسية التي يواجهها موظفو وزارة التربية الوطنية وخاصة هيئة التفتيش التي تتحمل أعباء مهنية تتجاوز في كثير من الأحيان قدرات الأفراد وإمكانات الوسائل المتاحة لهم.

فهذه الهيئة تمثل الجهاز الضامن لسلامة الممارسات التربوية وجودة الأداء البيداغوجي داخل مختلف المؤسسات التعليمية، ومع ذلك ما تزال تشتغل في ظروف لا تليق بمكانتها ورمزيتها داخل المنظومة.

حادثة وفاة المفتشتين ليست مجرد خبر عابر في صفحات الجرائد، بل جرح مفتوح يكشف مقدار الهشاشة التي يعيشها قطاع التربية الوطنية. قد لا تكون السيارة القديمة سبباً مباشراً في وقوع الحادث، لكن طبيعة الأسطول الذي تعتمد عليه الوزارة تثير تساؤلات مؤلمة حول منطق تدبير الموارد والوسائل، لا يمكن للقطاع المسؤول عن إعداد أجيال الغد أن يعوّل على سيارات متهالكة أو وسائل نقل بدائية في أداء مهام حساسة تتطلب الانتقال المستمر بين مؤسسات غالباً ما توجد في مناطق بعيدة وغير مهيأة. إن هذا الوضع يكشف تناقضاً صارخاً بين خطاب الدولة حول أهمية التعليم وبين الممارسة الواقعية التي تحافظ على أسطول قديم لا يراعي شروط السلامة.

واللافت أن قطاعات أقل تأثيراً من حيث الوظيفة الاجتماعية تتجدد أساطيلها بانتظام وتحظى بوسائل لوجستيكية حديثة في الوقت الذي يضطر فيه المفتش إلى التنقل في طرق غير آمنة وداخل سيارات تفتقر إلى أساسيات الحماية.

هذا التفاوت يعكس حيفاً مؤسسياً يجعل العاملين بوزارة التربية الوطنية في مراتب دنيا داخل سلم الاهتمامات الحكومية. فبدل أن يكونوا في مقدمة المستفيدين من ظروف عمل لائقة، يجدون أنفسهم في مواجهة أعباء مهنية ضخمة بوسائل محدودة.

تتوسع مهام المفتش وتتعمق مسؤولياته. فهو لا يكتفي بزيارة المؤسسات وتقييم أداء المدرسين بل يساهم في حماية الزمن المدرسي وتتبع تنفيذ البرامج وتحسين جودة التعلمات ومراقبة سير الامتحانات وتوجيه الفاعلين التربويين.

كل هذه المهام تحتاج إلى ظروف مهنية محترمة لأن جودة العمل ترتبط مباشرة بسلامة وسلاسة التنقل وباستقرار الإحساس بالأمان المهني والنفسي. لكن الواقع يبرز عكس ذلك، إذ ما يزال الكثير من المفتشين يشغلون سيارات قديمة ويقطعون مسافات طويلة في تضاريس صعبة دون أن يشعروا بأن الدولة تضع سلامتهم المهنية ضمن أولوياتها.

إن مأساة المفتشتين تكشف أيضاً خللاً عميقاً في تصور الدولة لموقع جهاز التفتيش داخل المنظومة التعليمية.

فبدل أن يعتبر هذا الجهاز شريكاً استراتيجياً في الإصلاح ومكوّناً أساسياً في رفع الجودة وتجويد الممارسات الصفية، يُتعامل معه أحياناً بمنطق إداري ضيق يركز على المهام التقنية دون الاهتمام بوسائل العمل والمحيط المهني، وهو أمر ينعكس سلباً على فعالية الإصلاحات لأن أي رؤية تربوية لن تنجح إذا كان منفذوها يعملون في ظروف تهدد سلامتهم ولا تمنحهم سنداً لوجستيكيًا يليق بحجم الأدوار المنوطة بهم.

لقد حان الوقت لتجاوز الخطاب التقليدي حول “أهمية التعليم” والتحرك نحو إجراءات عملية يعاد من خلالها الاعتبار لجهاز التفتيش ولكل فئات موظفي القطاع، فتجديد أسطول الوزارة ليس امتيازاً بل ضرورة. توفير تعويضات منصفة وظروف تنقل آمنة ليس مطلباً فئوياً بل شرط من شروط نجاح المدرسة العمومية، الاعتراف بجهود المفتشين وتحسين وضعيتهم المهنية ليس ترفاً سياسياً بل خطوة أساسية نحو إصلاح حقيقي.

إن استمرار الوضع على ما هو عليه يعني أن الحوادث ستتكرر وأن الفجوة بين الخطاب الرسمي والواقع ستتسع.
والإصلاح لن ينجح ما لم يتم إدراج سلامة العاملين في القطاع ضمن تصور شمولي للتنمية، فالدولة التي تحترم نفسها وتطمح إلى بناء نموذج تنموي جديد لا يمكن أن تقبل بأن يسافر أطرها التربوية في سيارات قديمة أو أن تمنحهم وسائل عمل متآكلة بينما تمنح قطاعات أخرى سيارات حديثة وتجهيزات متطورة.

تساؤل اليوم لم يعد أكاديمياً ولا سياسياً فحسب بل أصبح أخلاقياً. كيف يمكن لبلد يبحث عن جودة التعليم أن يترك أهم فاعليه في مواجهة الطريق وحدهم.

وكيف يمكن لمنظومة تطمح إلى تكوين مواطن مسؤول وواعي أن تستمر في معاملة أطرها بطريقة لا تليق بمكانتهم ولا بانخراطهم الصادق في أداء مهامهم. إن مصالحة الدولة مع جهاز التفتيش ليست مسألة اختيار بل ضرورة لإنقاذ المدرسة العمومية وإعادة الاعتبار لكرامة العاملين فيها.

تظل الحادثة المأساوية صرخة صامتة تنبه الجميع إلى أن الزمن لم يعد في صالح الانتظار، فإما أن نعيد الاعتبار للقطاع وأطره وإما أن نظل نعيد إنتاج المآسي في صمت ثقيل.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *