قراءات في العقوبات البديلة: من فلسفة الردع إلى رهانات الإدماج

قراءات في العقوبات البديلة: من فلسفة الردع إلى رهانات الإدماج
بقلم: د. عبد الإله طلوع

حينما أقدم المشرّع المغربي على إدراج العقوبات البديلة ضمن مشروع تعديل القانون الجنائي، كان ذلك بمثابة فتح نقاش عميق حول وظيفة العقوبة ذاتها.
فهل نحن نعاقب من أجل الردع والزجر فقط، أم أننا نسعى إلى إعادة إدماج الفرد في المجتمع من جديد؟ وهل يمكن الجمع بين هذين البعدين المتناقضين في أحيان كثيرة؟

إن العقوبة، منذ نشأة الفكر الجنائي، ظلت مرتبطة بسلطة الدولة في حماية النظام العام.
لكن فالتجارب الإنسانية أظهرت أن السجن القصير المدى لم يعد يحقق الردع المطلوب، بل أصبح مصنعاً لإعادة إنتاج الجريمة.
وهنا يتساءل المرء: إذا كانت السجون تُخرج مجرمين أكثر مما تستقبل، فما جدوى الاستمرار في منطق العقوبة التقليدية؟

 

العقوبات البديلة التي نص عليها المشروع المغربي جاءت في أربع صيغ:

●العمل لأجل المنفعة العامة،

●المراقبة الإلكترونية،

●تقييد بعض الحقوق أو فرض التزامات،

●الغرامة المالية كبديل للعقوبة الحبسية.

هذه الصيغ، وإن بدت عملية، تحمل في طياتها إشكالات عميقة: هل نحن أمام تغيير جوهري في السياسة الجنائية، أم مجرد التفاف على أزمة الاكتظاظ السجني؟

●العمل لأجل المنفعة العامة

هذا الخيار يطرح أسئلة كثيرة: هل المؤسسات العمومية والجماعات الترابية مستعدة فعلاً لاستقبال المحكومين وتوظيفهم في خدمة المجتمع؟ أم أننا سنجد أنفسنا أمام عقوبة شكلية بلا أثر ملموس؟ ثم ماذا عن صورة المحكوم عليه وهو ينجز هذه الأشغال؟ هل ستُنظر إليه كمذنب يُعاقَب، أم كمواطن يساهم في إصلاح خطئه؟

●المراقبة الإلكترونية

هي تقنية تبدو متقدمة، لكنها تفتح باب القلق: هل يملك المغرب البنية التكنولوجية والقدرة الإدارية لمراقبة آلاف المحكومين عبر أساور إلكترونية؟ وما الذي يضمن عدم تحولها إلى وسيلة جديدة للمراقبة العامة للمجتمع خارج الإطار الجنائي؟ ثم ماذا عن كلفة هذه التكنولوجيا على ميزانية الدولة؟

●تقييد الحقوق وفرض الالتزامات

هذه الصيغة تحمل أفقاً إصلاحياً واضحاً: منع المدمن من ارتياد الحانات، أو إخضاعه لعلاج إجباري، أو إلزام الشاب العاطل بالتكوين المهني.
لكن هنا يبرز سؤال آخر: هل تتوفر لدينا مراكز علاج كافية؟ وهل نملك مؤسسات تكوين قادرة على استيعاب هؤلاء؟ أم أن الأمر سيبقى مجرد قرار قضائي يفتقر إلى أدوات التنفيذ الواقعية؟

●الغرامة كبديل للحبس

قد تبدو الغرامة حلاً عملياً لتخفيف الضغط عن السجون، لكنها تفضح تناقضاً صارخاً: أليست هذه العقوبة امتيازاً للأغنياء فقط؟ من يملك المال يدفع ويخرج، ومن لا يملك يُسجن. ألا يشكل ذلك تكريساً لـ”عدالة طبقية” تجعل الفقير دائماً أكثر عرضة للسجن؟

●بين الردع والإدماج

السؤال المركزي هنا هو: كيف نوازن بين الردع الذي يطالب به الرأي العام لحماية المجتمع، وبين الإدماج الذي تفرضه قيم حقوق الإنسان ومبادئ العدالة الحديثة؟ هل يمكن أن تكون العقوبة أداة للتأديب وللإصلاح في الوقت نفسه؟ أم أننا مضطرون للاختيار بين عدالة الردع وعدالة الإصلاح؟

●المجتمع والقبول النفسي

حتى لو نجحت الدولة في توفير البدائل، هل المجتمع مستعد لقبولها؟ كيف سينظر الناس إلى شخص ارتكب جريمة وهو لا يزال يعيش بينهم دون أن يدخل السجن؟ ألا يُنظر إلى ذلك كتساهل مفرط مع الجريمة؟ ثم، هل يمكن أن يقتنع القضاة أنفسهم بأن البدائل فعّالة، أم سيظلون يميلون إلى الحل التقليدي: السجن؟

●الفلسفة الكامنة وراء البدائل

من الناحية الفلسفية، العقوبات البديلة تعكس تحوّلاً من عدالة الانتقام إلى عدالة الإصلاح، إنها محاولة لرؤية الجاني لا كعدو للمجتمع، بل كإنسان أخطأ ويستحق فرصة ثانية.
لكن هذا التحول يحتاج إلى ثقافة جديدة تؤمن بقدرة الفرد على التغيير.
هل نحن مستعدون في المغرب لمثل هذا التحول الثقافي؟

●الرهان السياسي والقانوني

من الواضح أن إدراج العقوبات البديلة جاء أيضاً في سياق سعي المغرب إلى ملاءمة تشريعه مع المواثيق الدولية لحقوق الإنسان. لكن، هل يكفي تعديل النصوص لتحقيق الإصلاح؟ أليس المطلوب إصلاحاً شاملاً يربط بين العدالة الجنائية والسياسات الاجتماعية؟ فالمدمن الذي يُفرض عليه علاج لن يستفيد ما لم تُصلح المنظومة الصحية، والشاب العاطل الذي يُفرض عليه تكوين مهني لن ينجح ما لم تتوفر فرص الشغل.

●نحو عدالة جديدة

العقوبات البديلة قد تكون بالفعل مدخلاً لبناء عدالة جديدة، تُعلي من قيمة الإنسان وتعتبر الجريمة عارضاً يمكن تجاوزه.
لكن نجاحها مشروط بجرأة القضاة، وبإرادة الدولة، وبقدرة المجتمع على تجاوز عقلية “السجن هو الحل”.

●الخاتمة

يبقى السؤال الكبير: هل نحن مستعدون كمغاربة للانتقال من منطق الردع العقابي إلى منطق الإدماج الإصلاحي؟ أم أن العقوبات البديلة ستظل مجرد بنود قانونية جميلة، تُرفع كشعار في المنتديات الدولية، بينما يستمر الواقع في إنتاج نفس المعضلات؟

الجواب، في النهاية، لن تحدده النصوص وحدها، بل ستحدده الإرادة الجماعية لمجتمع يريد أن يبني عدالة أكثر إنسانية.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *