في زمن يُقصى فيه أهل الضمير ويُصنع القرار بيد من باعوا أعينهم للعمى..

في زمن تاهت فيه القيم واختلطت فيه المعايير، أصبحنا نعيش وسط بيئة يختنق فيها العدل ويزدهر فيها الفساد، حيث يُكافأ الفاسد ويُعاقب الشريف، ويُمنح الصوت لمن لا ضمير له بينما يُخرس صوت الحق. في هذه البيئة المتصدعة، يتحول البصير الذي كان يرى بعين العقل والقلب إلى أعمى، لا لأنه فقد بصره، بل لأنه أُرغم على إغماض عينيه أمام سيلٍ من الظلم والانحراف. وفي المقابل، يصحو الأعمى الذي طالما اعتُبر غافلاً ليبصر الواقع بحقيقته العارية، ويميز الخيط الأبيض من الأسود وسط عتمة التزييف.
من كان يملك الوعي والمعرفة أصبح اليوم متهمًا بالتشويش والتحريض، ومن كان يحمل قلمه ليكتب عن المظالم صار مطاردًا أو مُقصى. تُغلق الأبواب في وجه الشرفاء، وتُفتح على مصراعيها للانتهازيين، تُرفع أصوات النفاق وتُكمم أفواه الصدق. أصبح الانحياز للعدل جريمة، والسكوت عن الباطل نوعاً من “الحكمة” المزعومة.
في الأسواق، يضيع حق الضعفاء، وتُرفع أسعار الحياة بلا رحمة، يُستغل الفقر لتكريس التسلط، وتُجهض أحلام الشباب عند أول حاجز من البيروقراطية أو التمييز الطبقي. أما التعليم، الذي كان يوماً أداة للتحرر، فقد صار مرآة لعالم غير عادل، حيث يُقاس المستقبل بثمن المدارس الخاصة لا بجَهد الطالب ولا بعقله.
يبدو أن الفساد في بيئتنا لم يعد سلوكًا شاذًا، بل أصبح نمط حياة. تغلغل في تفاصيل المؤسسات، وسكن العقول حتى بات البعض يعتبره “حلاً عمليًا” بدلًا من كونه عارًا أخلاقيًا. هذا الواقع جعل الكثير من البصيرين الذين كانوا يحلمون بمجتمع عادل يختارون الانسحاب أو الصمت، بينما ينهض من رحم المعاناة أناسٌ لم يكونوا في الحسبان، يرفضون هذا الواقع، ويقررون أن يكونوا شهود عدل في زمن الشهود الزور.
هؤلاء “العمى المبصرون ليسوا نخبة ولا يملكون سلطة، بل يملكون إيمانًا بعدالة مفقودة وإرادة صلبة لمقاومة القبح بالحق، والخذلان بالصدق. يرون ما لا يريد الآخرون رؤيته، ويسمعون صرخات المظلومين رغم ضجيج التصفيق الكاذب.
لقد صار الزمن مقلوبًا، لكن الأمل لم يمت. فكما أن الأعمى استطاع أن يرى النور وسط الظلمة، يمكن للبصير أن يستعيد بصيرته، إن قرر أن لا يصمت أكثر، وأن لا يتواطأ مع الزيف. فالحق لا يموت ما دام هناك من يُحييه، والعدل لا يغيب ما دام هناك من يطالب به ولو بكلمة.