عصر التفاهة… حين تتحول القيم إلى سلعة

لم يعد مفهوم “عصر التفاهة” مجرد توصيف أخلاقي عابر، بل صار حقيقة يومية نلمسها في تفاصيل حياتنا. فقد تحوّل “التافه” في زمن المنصات الاجتماعية إلى نموذج يُحتفى به، لا بما يقدّمه من فكر أو إبداع، بل بما يروّجه من محتويات سطحية؛ من فيديوهات جوفاء على شكل “روتيني اليومي” تستغل الجسد والعري لجذب المتابعة، إلى مشاهد استعراضية لسيارات فارهة وصور أمام فنادق فخمة ومطاعم راقية. وبهذا، أعيد تعريف النجاح عند جيل كامل بوصفه مظهراً استهلاكيا، لا مسارا معرفيا أو إبداعيا.
المفكر الكندي ألان دونو، في كتابه عصر التفاهة، حذّر من هذا التحول قائلاً: “لقد وصلنا إلى زمن يُدار فيه المجتمع من طرف التافهين، حيث لم يعد مطلوبا أن تكون فاضلا أو عالما، بل أن تكون بلا عمق، مسالما، وقادرا على إرضاء الجميع”. أما فريدريك نيتشه فقد رأى أن سقوط الأمم يبدأ من انحطاط أخلاقها وانغماسها في الملذات السطحية، فتحوّل الشعوب إلى قطيع يساق نحو الفناء. بدوره، أكّد أنطونيو غرامشي أن أخطر الأزمات هي تلك التي “يموت فيها القديم ولم يولد الجديد بعد”، حيث تطفو على السطح أنماط من الانحطاط الفكري والاجتماعي.
خطورة التفاهة إذن لا تكمن في انتشارها فقط، بل في تحوّلها إلى قدوة تُغري الأجيال الناشئة. شباب اليوم، المحاصرون بالهواتف والشاشات، يواجهون صورا متواصلة تقدّم “الشهرة السريعة” باعتبارها طريقاً للنجاح، فيما تتراجع قيمة الاجتهاد والمعرفة والعمل الجاد.
إن مواجهة هذه الظاهرة لا يمكن أن تظل محصورة في الوعظ الأخلاقي، بل هي معركة قيم ومشروع مجتمعي يقتضي إعادة الاعتبار للمدرسة والجامعة والثقافة كمسارات لبناء الإنسان. فدواء هذا “المرض الاجتماعي” يبدأ من التربية على النقد والتمييز، ومن تحصين العقول ضد الاستلاب بالصورة والاستهلاك.
ويبقى السؤال مفتوحا….هل نريد أن نُخرّج أجيالا من “الإنسان المفكر” الذي يضيف معنى وقيمة، أم نكتفي بإنتاج “الإنسان التافه” الذي لا يملك سوى صدى زائف على شاشة عابرة؟