سكيزوفرينيا الرياضة عند المغاربة: عشق الفرجة الرياضية والنفور من الممارسة.

يظهر الواقع المغربي مفارقة صارخة بين الشغف الكبير الذي يبديه المغاربة تجاه كرة القدم، والضعف الشديد في ممارسة الرياضة بمختلف أنواعها.
هي مفارقة يمكن توصيفها بـسكيزوفرينيا رياضية، يتجلى فيها الانقسام بين الاهتمام العاطفي الجارف تجاه كرة القدم كمجال للفرجة والتشجيع، وبين شبه غياب لثقافة الرياضة كممارسة يومية وسلوك مجتمعي يندرج ضمن أسلوب الحياة الصحية.
*الفرجة بدل الممارسة: رياضة المتعة لا رياضة الجسد
يتضح من خلال ملاحظة الواقع الاجتماعي المغربي أن الرياضة، وخصوصاً كرة القدم، تستهلك على مستوى الفرجة بشكل يفوق بكثير استهلاكها كممارسة.
الملايين من المغاربة يتابعون مباريات فرقهم المحلية والعالمية بشغف منقطع النظير، ويحفظون أسماء اللاعبين وخطط المدربين، وينخرطون في النقاشات الحامية حول نتائج المباريات وتحكيمها، إلا أن نسبة ضئيلة فقط من هؤلاء يمارسون الرياضة فعلياً في حياتهم اليومية.
إن هذه المفارقة لا تعكس فقط غياب البنية التحتية الرياضية أو نقص الفضاءات المخصصة للممارسة، بل تفضح خللا أعمق مرتبطاً بتمثلات المغاربة للرياضة، حيث ينظر إليها غالبا كترفيه، أو وسيلة للهروب من ضغوط الحياة اليومية، وليس كركن أساسي من أركان الحياة الصحية والجسدية والنفسية.
*الإعلام وترويج ثقافة الفرجة:
ساهم الإعلام المغربي والعالمي، وبشكل كبير، في تكريس ثقافة الفرجة الرياضية، وخاصة الكروية منها.
فمعظم القنوات الوطنية والجرائد والمواقع الإلكترونية تركز بشكل شبه حصري على كرة القدم، وتحديدا على فرق النخبة والمنتخب الوطني بمختلف فئاته، مما يعمق النظرة النخبوية للرياضة.
كما أن التغطيات الرياضية نادرا ما تتطرق إلى قضايا الرياضة للجميع، أو الصحة البدنية، أو الرياضة القاعدية، أو الرياضة النسائية، مما يغيب نموذج الرياضة كممارسة مجتمعية من المشهد العام.
في هذا السياق، يلعب الإعلام دورا مزدوجا:
-من جهة يلهب الحماسة الجماهيرية للمغاربة ويؤجج مشاعر الانتماء القومي المغربي عبر الرياضة.
-ومن جهة أخرى يقصي البعد التربوي والاجتماعي والصحي للممارسة الرياضية لدى المغاربة، مكتفيا بترويج الرياضة كمادة استهلاكية للفرجة والتسلية.
*غياب السياسات الرياضية المتوازنة:
تعاني المنظومة الرياضية في المغرب من خلل بنيوي يجعلها تنحاز بوضوح إلى دعم النخب الرياضية، وخاصة في مجال كرة القدم، على حساب الرياضة المجتمعية.
ففي الوقت الذي تضخ فيه ميزانيات ضخمة لدعم الأندية الكبرى والبنيات التحتية المتعلقة بالمنافسات الدولية خصوصا في السنوات الأخيرة، تظل البنيات الأساسية لممارسة الرياضة من طرف المواطنين ضعيفة جدا، سواء في الأحياء الشعبية أو حتى في المؤسسات التعليمية كمشتل اولي للتربية البدنية.
السياسات الرياضية الحالية لا تنظر إلى الرياضة كحق للجميع ولا حتى الانتباه إلى هذا الخلل في نظرتها للرياضة المغربية وللمواطنين المغاربة، بل كفضاء لإعداد نخبة قادرة على تمثيل المغرب قاريا ودوليا فقط حتى ولو دعت الضرورة إلى تجميع لاعبين وأبطالا هم صنيعة رياضية لدول أخرى.
هذا التوجه يكرس القطيعة بين الرياضة كأداة مجتمعية، وبين الرياضة كمجال تنافسي نخبوي، مما يجعل المواطن العادي خارج معادلة التخطيط الرياض وخارج الفعل السياسي للرياضة المغربية العام.
*رياضة المنتخبات مقابل الرياضة للجميع:
أدى التركيز المفرط على رياضة المنتخبات، خاصة كرة القدم، إلى إهمال تام لمفهوم الرياضة للجميع. لم يعد ينظر إلى الرياضة كأداة للوقاية من الأمراض المزمنة، أو لتخفيف الضغط النفسي، أو لتقوية التماسك الاجتماعي أو للصحة العامة، بل كأداة للفرجة الوطنية، ولتفريغ شحنات الغضب العام، وللتمويه عن الأزمات الاجتماعية والاقتصادية التي يعاني منها المواطنون.
النجاحات الرياضية الظرفية تستغل، في كثير من الأحيان، كأداة دعائية لتبييض وجه السياسات العامة، حيث تتحول إنجازات المنتخب الوطني إلى مسكنات اجتماعية مؤقتة، يتم من خلالها تعليق الآمال وتعليق الانشغالات الحيوية للمواطنين، في مشهد يشبه الفرجة السياسية.
*تأطير غائب وتحفيز محدود:
واحدة من أهم أسباب ضعف الممارسة الرياضية في المغرب هي غياب التأطير الحقيقي والتحفيز المؤسساتي للمواطنين، خاصة فئة الشباب.
المدارس الرياضية والرياضة المدرسية ومدارس الأندية القليلة جدا والبرامج المحدودة الأثر لا تقوم بدورها في ترسيخ قيم الرياضة منذ الصغر، والجماعات المحلية لا توفر التجهيزات الكافية، والمجتمع المدني الرياضي يعاني من ضعف الإمكانيات والدعم بالرغم عدم الزاميته في القيام بذلك امام تحمل مؤسسات الدولة إجبار بتأطير كافة المغاربة رياضيا.
حتى المبادرات التي أُطلقت مثل الرياضة للجميع أو الرياضة في الأحياء تظل محتشمة وغير مستدامة، ولا تواكبها حملات توعية حقيقية تبرز أهمية الرياضة في حياة الإنسان اليومية، بعيداً عن هوس المنافسة والبطولات.
*نحو فهم جديد للرياضة: من الفرجة إلى الحياة
الرياضة ليست فرجة فقط، وليست ترفيهاً مؤقتاً، ولا وسيلة لتنفيس الغضب العام. إنها ثقافة يومية، وممارسة صحية، وأسلوب حياة، وجزء من تنمية الإنسان الشاملة. إذا لم يُعاد النظر في السياسات الرياضية الوطنية لتشمل البعد الاجتماعي والصحي والتربوي للرياضة، فإن الشغف الجماهيري الحالي سيظل ظاهرة سطحية وهشة، غير قادرة على أن تترجم إلى تحسن في جودة الحياة ولا في الصحة العامة.
إن الحاجة اليوم ملحة لإحداث ثورة في الوعي الجماعي المغربي اتجاه الرياضة، تجعل منها حقاً متاحا للجميع، وليس امتيازا خاصا بالنخب ولا ترفيها لحظيا في المناسبات.
**المراجع:
-الرياضة والمجتمع المغربيلعبد الرحيم الحسين: إشكاليات التمثلات والممارسة. المركز الثقافي العربي، 2019.
-المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي. تقرير حول الرياضة وآفاق التنمية بالمغرب. 2021.
-السياسات العمومية في المغرب لإدريس بوخبزة: من النخبوية إلى المشاركة المجتمعية. منشورات أفريقيا الشرق، 2018.
-مجلة هسبريس الرياضية، مقالات تحليلية 2023-2024 حول واقع الرياضة في المغرب.
-وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة. الإستراتيجية الوطنية للرياضة 2023-2030، 2023.