دفاعا عن الوطن
حينما نشاهد عملا فنيا ( اقول فنيا ابداعيا وليس تجاريا معدا لاستقطاب العقول البشرية من اجل المال) مثل المسرح و السينما واللوحات التشكيلية أو نغمات موسيقية… هناك مستويان لرؤية هذا العمل أو مشاهدته أو حتى قراءته؛ مستوى أول نسميه: تفسيرا مباشرا أو قراءة مباشرة ( interprétation évidente ) وهي التي يقوم بها الانسان الذي لا يملك أدوات تحليلية للعمل الفني ؛وهكذا لا يرى من ذلك الفن سوى ما تراه عينه ولا يراه فكره؛ ثم مستوى ثاني نسميه: تفسيرا عميقا أو قراءة حذرة ( (averti والتي يقوم بها الانسان المتمكن من ادوات تحليل الفن الذي يهتم بقراءته أو مشاهدته.
ما حدث ببلادنا خلال الفترة السابقة من سرقات ونهب؛ يضعنا امام هذين المستويين من القراءات؛ لاستنتاج ما يقع والتفكير في الحلول؛ للخروج من هذه الوضعية الفريدة؛عرفت بلادنا هذه السرقات على مستويات اجتماعية مختلفة؛سرق الكبار ممثلي الامة الحلوى التي وضعت على شرفهم؛ ولم يكتفوا بما أكلوا ولكنهم طمعوا في سرقة ما تبقى ليأكل الابناء وربما الاقارب؛بل قد يحتفظ بها لتقديمها للزوار بالبيت!كما وقفنا مرارا على السرقات؛ التي تقع على الطرقات؛ عندما تنقلب شاحنة تنقل مواد غذائية؛وعوض التضامن مع سائق الشاحنة وحمايته؛ يهجمون على سلعته بطرق همجية و يخطفونها أمام اعينه؛ولا نجد من يستنكر الامر ويتضامن معه للحفاظ على السلعة التي ينقلها؛وما نشاهده هو كثرة الهواتف الذكية؛ التي تتسابق لتوثيق الحدث؛ ونشره على مواقع التواصل الاجتماعي؛ بغية الانفراد والظهور أمام الاخر بمظهر الطاهر العفيف؛ الذي لم يساهم في الخطف ولكنه ساهم بنشر الخطف؛ وظل متفرجا وشاهدا سلبيا! ومن حيث لا يدري ساهم في اغنياء قاعدة بيانات تلك المواقع بالصور و مواقع الحدث؛وكلنا يعلم أن تلك الصور وحجمها الذي يعد بالملايير؛ هو من يغذي قاعدة البيانات الكبرى (big data) والتي تعتبر الاداة الفعالة للذكاء الاصطناعي وتطوره! وهكذا يضعون أنفسهم وخدماتهم بالمجان لصالح الشركات العملاقة؛هذه الشركات التي تنعت مثل هؤلاء ب” المستخدمون الاغبياء”؛وقفنا أيضا على همجية فريدة لمثل هؤلاء داخل سوق كبير وهو يوزع مادة غذائية بالمجان؛فتخاطف عليه الجميع لحد المشادات فيما بينهم؛وكان أيضا بجوارهم من استعملوا هواتفهم الذكية لتقديم الخدمات المجانية للشركات العملاقة؛كان لبلادنا أيضا موعدا مع أمثال هولاء وهم يسرقون الخرفان من بائعيها باحدى الاسواق؛ بمناسبة عيد الاضحى الذي يسميه المغاربة “العيد الكبير” هذه التسمية التي يعتقد الكثير أنها السبب في تحويل عيد الاضحية؛الى عيد التباهي بشراء اللحم! وأمام هذا الحدث أيضا كان ” المستخدمون الاغبياء”حاضرون و قاموا بعملهم كما يجب لفائدة الشركة العملاقة.
حينما نتوقف عند هذه الاحداث؛ ونشرع في اصدار الاحكام؛ نكون في المستوى الاول الذي تحدثنا عنه في مقدمة هذه السطور؛ولا نحكم الا على ما نشاهد ( interprétation évidente des faits ) وبالطبع تكون قرائتنا للحدث محدودة؛ وستكون الحلول التي نقترحها محدودة أيضا أو ناقصة.
حينما نقف على اشخاص كانوا يعيشون مثل باقي المواطنين بفضل راتبهم الشهري؛ فأتيحت لهم فرصة اعتلاء كرسي رئاسة جماعة أو مجلس بلدي؛ ثم تحولوا بقدر قادر من اناس عاديين الى عفاريت؛ يمتلكون من المال ما يكفيهم ويكفي عائلتهم الى ما بعد الممات؛ولا تتم محاسبتهم ولا مساءلتهم عن مصدر الاموال؛ التي اكتنزوها في تلك المدة الزمنية القصيرة؛ وغاب عنهم ” المستخدمون الاغبياء” ولم يلاحظهم سوى المعارف والاقارب؛ لا بد اذن أن نستنتج أن تلك الاموال اكتنزوها كما تحصل المواطن الاخر على الخروف من سوق بنهبه لاخيه المواطن باستعمال القوة! لا فرق بين هذا وذاك الا بغياب أو حضور “المستخدمون الاغبياء” للشركات العملاقة!
حينما نقف على شخص سمحت له ظروف خاصة؛ وليس غيرها مثل -كفاءة أو دبلوم أو شيء من هذا- باعتلاء كرسي رئاسة مؤسسة ونكتشف فيما بعد أنه اختلس أموالها؛ وعوض محاسبته نكافئه بمنطق”عفا الله عما سلف”؛هنا أيضا لم يحضر ” المستخدمون الاغبياء”!
حينما نجد شخصا استغل نية المواطن البسيط ووصل الى البرلمان بصفته ممثلا للامة؛فيسرق الحلوى ويسرق أموال الضعفاء؛ وحينما ينادي الضعفاء والبسطاء الدولة بالتخلي عن تقاعد هؤلاء (وهو تقاعد غير مستحق بالمناسبة) يخرج علينا ودون حشمة ولا احترام لمكانته ولا للامة التي يخاطبها وهو”مخرج عينيه فينا” ويقول لنا << اللي عاطينا اختو ايجي يديها>> !
حينما نقف على وحدات صناعية ساهمت في صندوق كورونا؛ ثم يعلم المواطن الضعيف أمتلك المؤسسات ستسترجع مساهماتها عبر تخفيض ضريبي أو اعفاء حتى؛ وحينما نقف على مستثمرين في مجال المحروقات يبيعونها الى المواطنين خارج قواعد المنافسة؛ وبأثمنة يحددونها لحساب مصالحهم على حساب جيوب الضعفاء؛ هنا نقف ايضا على نفس السلوك الذي قام به المواطن العادي وهو يسرق خروفا! فلا نرى فرقا في ذلك سوى غياب ” المستخدمون الاغبياء”.
حينما نقف على اشخاص يستفدون من اراضي؛ تقع بمواقع متميزة؛ ويحصلون عليها بأثمنة بخسة بحجة خدام الدولة؛فيما المواطن الضعيف يقضي عمره كاملا؛ وهو يؤدي أقساط قرض بنسبة فائدة كبيرة استعمله لشراء شقة بالكاد تأويه وأولاده؛
حينما نرى مثل هذه المظاهر المتناقضة حد التنافر؛علينا اذن أن ننظر الى هذه الاختلالات؛ في كليتها وليس في تجزيئها؛ اذا رغبنا فعلا في البحث عن أسباب ظهورها وتناميها؛ ومحاولة ايجاد الحلول المناسبة لها.
عبد العزيز شبراط