خوارزميات الانتباه: كيف استبدت التفاهة الفكر وأطلقت اقتصاد الغضب؟

من يمتلك فعليا زمام السلطة في العالم المعاصر؟ هل هي الفكرة، أو الرؤية التي تشكل وعي الشعوب وتوجه مسارات التاريخ؟ أم أن من يسيطر على خوارزمية الانتباه، ذلك النظام الخفي الذي يوجه التفاعلات البشرية ويوزع الاهتمام بانتقائية مفرطة، هو المتحكم الحقيقي في دفة الحكم؟ في زمن أصبحت فيه صناعة الانفعالات وتقنينها مهارة توازي أو تفوق أهمية صناعة الأفكار، يتبدى المشهد كأنه استبدال للفكر بالضجيج، والمعنى بالصدمة العابرة، والإنسان كمستخدم يحترق ذاتيا في بوتقة استهلاك لا متناه، يظن فيها أنه يختار ويمارس حرية التعبير، بينما هو في حقيقة الأمر مجرد مادة خام تستهلك في سوق عالمي لا يعترف سوى بأرقام الانتباه ومعدلات التفاعل.
في حقبة يتسارع فيها تتابع الصور ويتباطأ فيها نسق المعاني، تتصدر التفاهة المشهد كسلطة صامتة. التفاهة ليست نزوة أو سلوكاً هامشيا، بل هي إعادة ترتيب للعالم حيث يتحول الهامشي إلى مركز، والعارض إلى قاعدة، والباطل إلى معيار للقياس. التفاهة تولد فراغا وجوديا يفتح الباب أمام أعمق أشكال الانفعالات البدائية، حيث تتحول الكراهية إلى التعبير الانفعالي الأول عن فراغ المعنى وغياب القيمة. الإنسان المحروم من أفق فكري ومصدر معنوي، يبحث عن عدوه كمرآة تعكس بؤسه الداخلي، وهكذا تنبت الكراهية في تربتها الخصبة، مكونة شبكة معقدة من الاندفاعات النفسية التي تغذيها تفاهة المشهد العام.
علاقة التفاهة بالكراهية ليست مجرد تناقض سطحي، بل هي بنية متشابكة، حيث تبدو التفاهة بريئة، خفيفة، مسلية، لكنها في لحظات التصعيد تتحول إلى حاضنة للكراهية الجماعية، التي بدورها تمثل انفجار الفراغ الذي خلفته التفاهة. في اقتصاد جديد لا يعترف بالجودة ولا الإتقان، تحولت التفاهة إلى مورد استراتيجي ورأس مال يتفوق على الذهب والنفط، حيث تُقاس البضائع الرقمية بعدد التفاعلات لا بنقاء الفكرة، والتفاهة هي البترول الأسود، والكراهية مصفاتها التي تنتج منه عملة صعبة في أسواق الانتباه.
لقد تحولت التفاهة من كونها سلوكا هامشيا إلى صناعة متكاملة تعتمد على إنتاج غباء متعمد يستند إلى استثارة الانفعالات بدلا من التأمل العقلي. خوارزميات الشبكات الرقمية لا تفرق بين عمق المحتوى وضحالة مادته، بل تكافئ فقط من يثير المشاعر ويجذب الانتباه بأي ثمن. في هذه المنظومة يتحول الذكاء الخفي إلى ضجيج مرئي، والسخف إلى عملة رقمية بلا غطاء أخلاقي. الجمهور، بدوره، ليس إلا مشاركا نشطا في دورة الاستهلاك هذه، حيث يصبح الغضب سلعة دعائية، والإدانة أداة ترويج مجانية، ويُعاد تدوير كل نقرة وتعليق كوقود لدورة لا تنضب من التفاهة.
في اقتصاد الكراهية، المعادلة مقلوبة بالكامل، الجودة لم تعد تُنتج أرباحاً، بل الانفعال والغضب هما السلعتان الرئيسيتان. الشخص الذي يملك مهارة إيقاظ الغضب المستمر هو الأكثر ربحاً ومشاهدة، حتى ولو كان خالياً من الفكر أو الموهبة. تدفع له المنصات ثمن كل موجة غضب كأنه يكافأ على إذكاء الفوضى وتحطيم المناخ العام، ليصبح الحقد سلعة منتجة تسوق في الأسواق الرقمية ويُعاد تداولها باستمرار. هذا النظام يحول الكراهية إلى دورة إنتاج كاملة تعتمد على جمهور مستفز ومحتوى مثير، فنحن، عن وعي أو دون وعي، نغذي وحشاً رقميا يتغذى على عواطفنا وينتج أرباحا من غضبنا.
تغير مقياس القيمة في عالمنا الحديث صار واضحاً، فالأمر لم يعد متعلقاً بما يُقال بقدر ما هو متعلق بكثافة التكرار وحدة النبرة الغاضبة. النظام الرقمي لا يهتم بفكر المحتوى أو عميقه، بل بعدد المرات التي يعاد فيها عرضه وبحدة تفاعله. هو نظام شيطاني يصنع التفاهة كطفيليات متكاثرة، ويجعل من الكراهية طاقة متجددة تغذي طاحونة لا تهدأ. آلة تفتك بإنسانيتنا وتحوّل العواطف السلبية إلى ربح اقتصادي من خلال استنزاف الوعي، وتحويل الفرد إلى مجرد بيانات سلوكية تسوق كبضاعة في الأسواق العالمية.
باتت التفاهة ظاهرة عالمية تتجاوز الحدود والثقافات، منتجاً بلا هوية وطنية أو ذوق محلي، حيث تفرض المنصات الرقمية معيارا موحدا يقيس القيمة بالأكثر مشاهدة، ولو كان المحتوى الأكثر تفاهة. هذه العولمة السطحية توحد ردود الأفعال البشرية، فتصبح الضحكة والتعليق الساخر والغضب متشابهة كأن العالم كله يشاهد نفس العرض الرديء عبر شاشات متعددة. وقد نجحت الشركات في استثمار هذا الغضب المحلي كفرصة ربح عالمية، حيث تفاعلات الغضب في بلد ما تثير خوارزميات في قارات بعيدة، في منصة رقمية عالمية تراقب الإنسان أكثر مما يراقب نفسه، وتهدف إلى إبقاءه أسير الشاشة أطول مدة ممكنة.
التفاهة هنا ليست خيارا شخصيا، بل بنية اقتصادية متكاملة تنتج وتسوق وتستهلك نفسها في حلقة مفرغة. في هذه السوق لا مكان للصمت أو التأمل، فكل ثانية هدوء تحسب كخسارة في “اقتصاد الانتباه”. نحن الزبائن والمنتجون معا، ندفع بأوقاتنا وعواطفنا ثمن هذه السوق التي لا ترحم، ونمولها بغضبنا وفضولنا.
العالم اليوم يشبه مسرحية سوداوية بإخراج دقيق، حيث يتربع التافه على المسرح مركزيا، بينما الذكي يُحكم ضبط الصوت والإضاءة في الكواليس. الشركات الكبرى هي المخرج الخفي، تبتسم خلف الكواليس وهي تحوّل كل موجة غضب وكل جدل سخيف إلى أرباح طائلة، دون أن يُهتز ضميرها أمام ما يتساقط من وعي وإدراك في طريقها.
لقد نجح هذا النظام في جعل التفاهة مورداً استراتيجياً مستداما، والغباء طاقة متجددة، لا تحتاج إلى طغاة أو فلاسفة، وإنما إلى مهرجين يرقصون أمام الكاميرات وجمهور غاضب يصفق لا يدري أنه مجرد وقود لمسرحية مصممة على تدمير عمق الإنسان. نحن لا نعيش مجرد “عصر التفاهة”، بل زمن “تسليع التفاهة واقتصاد الكراهية”، حيث تُقاس القيمة بما تثيره من فوضى وانفعال، لا بما تحمله من معنى وعمق.
فهل يستطيع هذا العالم القائم على استنزاف الانفعالات استعادة قدرته على التفكير النقدي؟ وهل يمكن لإنسان محاصر داخل شاشة أن يسمع صوته الداخلي وسط هذا الزئير الإلكتروني؟ وهل بقي متسع لبناء معنى حقيقي في زمن تحكمه خوارزميات تقيس النجاح بعدد المشاهدات لا بعمق الأفكار؟ أم أننا بالفعل دخلنا مرحلة يصبح فيها الصمت مقاومة والتف