خاوة خاوة أم فقدان البوصلة؟
بقلم عبد الإله طلوع
كاتب رأي وباحث في القانون العام والعلوم السياسية
ما يقع اليوم في علاقة بعض الجماهير المغربية بجماهير الدول التي ننافسها رياضيًا لم يعد مجرد سلوك عفوي يمكن تبريره بالاندفاع أو بحسن النية. لقد تحوّل، مع مرور الوقت، إلى ظاهرة تستدعي التوقف والتحليل، لأنها تمس في العمق معنى الانتماء، وحدود الروح الرياضية، وصورة الذات الجماعية في الفضاء العام.
فالرياضة ليست حدثًا ترفيهيًا معزولًا عن السياق الاجتماعي والسياسي، بل هي مجال رمزي مكثف، تُختزل فيه تمثلات الهوية الوطنية، وموازين القوة الرمزية، وأشكال التموقع داخل المجالين الإقليمي والدولي. وحين يُفرغ هذا المجال من بعده الرمزي، يتحول من فضاء تنافسي مشروع إلى مسرح للارتباك وفقدان المعنى.
ما نشهده اليوم من مبالغات في إظهار الود تجاه جماهير منافِسة، داخل سياق تنافسي واضح، لا يمكن اختزاله في كونه تعبيرًا عن التسامح أو التحضر. بل هو، في حالات كثيرة، تعبير عن عجز في التمييز بين الضيافة المشروعة والتنازل الرمزي غير المبرر.
هذا السلوك الجماهيري سبق أن لامسه المفكر المغربي عبد الله العروي، حين تحدث عن نزوعٍ تاريخي لدى المغاربة إلى طلب الاعتراف والإعجاب من الآخر، سواء كان جارًا أو قوة قريبة. وهو نزوع يبدو في ظاهره انفتاحًا، لكنه في عمقه يعكس قلقًا مزمنًا في تمثل الذات، ورغبة في نيل القبول بدل فرض الاحترام.
العروي لم يكن يدعو إلى الانغلاق أو العداء، بل كان يُحذّر من التحول إلى كيان يبحث عن التصفيق بدل بناء الهيبة. فالهيبة، في التحليل التاريخي والسياسي، لا تُستجدى ولا تُمنح، بل تُبنى عبر وعي جماعي صلب بالذات وبحدودها الرمزية.
الدول لا تُحترم بالعواطف المفرطة، ولا بالمجاملات المجانية، ولا باستعراض حسن النية في غير موضعها. بل تُحترم حين يكون مجتمعها واثقًا من نفسه، يعرف متى يكون مضيافًا، ومتى يكون حازمًا، ومتى يرسم حدود التنافس دون عداء ودون خضوع.
ما وقع في بعض المدن المغربية، ومنها أكادير، حين اختار جزء من الجمهور تشجيع منتخب منافس داخل أرض مغربية وفي ظرف تنافسي صريح، ليس حدثًا عابرًا. إنه مؤشر على خلل عميق في فهم معنى الانتماء الرياضي والرمزي، وعلى ضعف في الوعي بالسياق الذي تُمارَس فيه «الروح الرياضية».
فالتنافس لا يعني العداء، نعم، لكنه لا يعني أيضًا الذوبان في الآخر أو تعليق الانتماء الوطني بدعوى الأخلاق. الأخلاق الرياضية الحقة تقوم على احترام الخصم دون التخلي عن الذات.
الأخطر من ذلك هو شيوع ثقافة «خاوة خاوة» بشكل انتقائي وساذج، تُمارَس خارج أي وعي بموازين القوة أو بطبيعة اللحظة. وكأن المطلوب دائمًا هو تقديم فروض الطاعة الرمزية لإثبات حسن النية، حتى ولو كان الثمن هو إفراغ الرموز الوطنية من معناها.
الاحترام لا يُشترى بالعواطف ولا يُبنى بالولائم ولا يُنتج عبر المبالغة في التودد. الاحترام يُنتزع بوضوح الموقف، وبصلابة الشخصية الجماعية، وبالقدرة على قول «نحن هنا» دون صخب ولا استعراض.
المروءة ليست عداءً للآخر، لكنها أيضًا ليست خضوعًا رمزيًا له. والانفتاح لا يعني فقدان البوصلة، كما أن التسامح لا يعني تعليق الوعي النقدي.
إذا أردنا فعلًا أن نكون دولة محترمة، فعلينا أولًا أن نكون مجتمعًا يحترم نفسه، يعرف قيمة تاريخه ورمزيته، ويُحسن التمييز بين الضيافة والتمييع، وبين التواصل وفقدان المعنى.
باختصار، آن الأوان لوقف هذا الارتباك الجماهيري، وتعويضه بوعي جماعي ناضج، يدرك أن الأمم لا تُقاس فقط بما تملكه من تاريخ، بل بكيفية تمثلها له في الحاضر، والدفاع عنه بثقة واتزان.

