حين يمول العبث باسم الحرية: الإعلام بين وظيفة الدولة ومنطق السوق
بقلم: الدكتور عبد الإله طلوع
لم يعد الجدل الدائر حول الإعلام في المغرب نقاشاً مهنياً معزولاً، بل أضحى سؤالاً سياسياً بامتياز، يمس صميم علاقة الدولة بالمال العام، وبالقيم، وبالوظيفة التربوية للفضاء العمومي. فما طفا إلى السطح داخل البرلمان لم يكن مجرد مداخلة غاضبة أو سجال ظرفي، بل تعبيراً عن احتقان متراكم تجاه نموذج إعلامي استفاد من الدعم العمومي دون أن يقدّم مقابله خدمة عمومية تُقنع المواطن أو تحترم ذكاءه.
في هذا السياق، أعاد النقاش البرلماني الأخير تسليط الضوء على إشكالية قديمة جديدة: هل يُمنح الدعم العمومي للصحافة باعتباره حقاً مكتسباً، أم باعتباره أداة لضمان إعلام مسؤول يخدم الصالح العام؟ فالفلسفة التي أُحدث من أجلها هذا الدعم لم تكن يوماً تشجيع التفاهة أو تسويق الفضائح، بل حماية التعددية، وضمان الاستقلالية، ورفع جودة المنتوج الإعلامي.
غير أن جزءاً من المشهد الإعلامي اختار طريقاً مغايراً، حيث جرى تعويض التحقيق الصحفي بالاستفزاز، والنقاش العمومي بالعناوين الصادمة، والخدمة العمومية بمنطق “المشاهدة بأي ثمن”. وهنا يكمن جوهر الإشكال، لأن الخطر لا يتوقف عند حدود الذوق العام، بل يتجاوز ذلك ليطال صورة المجتمع، ووظيفة الإعلام، ومصداقية الدولة نفسها حين تموّل هذا النوع من المحتوى.
القضية، في عمقها، ليست قضية أشخاص أو قصص فردية، بل قضية نموذج إعلامي بُني على الإثارة بدل المعلومة، وعلى الصدمة بدل التحليل. نموذج يشتغل بمنطق السوق الخالص، لكنه يتغذى في الوقت نفسه من المال العمومي، دون خضوع فعلي لمنطق المحاسبة أو التقييم الأخلاقي. وهنا يطرح السؤال نفسه بإلحاح: كيف يمكن للدولة أن تموّل خطاباً يقوّض القيم التي تقول إنها تحميها؟
تصريحات رئيس الحكومة حول احترام الصحافة وحرية التعبير، رغم أهميتها من حيث المبدأ، تبقى غير كافية إن لم تُترجم إلى سياسات واضحة ومعايير دقيقة في صرف الدعم العمومي. فحرية الصحافة لا تعني غياب الضوابط، والاستقلالية لا تعني الإفلات من المسؤولية، والدعم العمومي لا يمكن أن يتحول إلى ريع دائم خارج أي مراقبة.
الأخطر من ذلك أن هيئات يفترض فيها تنظيم المهنة وحماية أخلاقياتها، وجدت نفسها في قلب فضائح أضعفت ثقة الرأي العام، وعمّقت الشعور بأن المشكل لم يعد فقط في المحتوى، بل في البنية التنظيمية التي سمحت بهذا الانفلات. وحين تهتز صورة مؤسسات التأطير، يصبح الإعلام بلا بوصلة، والدعم العمومي بلا معنى.
في المقابل، لا يمكن تجاهل أن هناك أصواتاً إعلامية جادة تؤدي ثمن هذا الخلط، وتُزاحم في فضاء مشوش، حيث يُكافأ الأكثر صخباً لا الأكثر مهنية. وهو ما يطرح مسؤولية الدولة في حماية الصحافة الجادة، لا عبر الشعارات، بل عبر آليات دعم عادلة، شفافة، ومربوطة بمعايير الجودة والالتزام الأخلاقي.
إن النقاش الدائر اليوم ليس ترفاً فكرياً ولا تصفية حسابات سياسية، بل لحظة مفصلية لإعادة تعريف الإعلام الذي نريده. إعلام يُسائل السلطة دون ابتذال، وينتقد المجتمع دون تشويه، ويستفيد من المال العام دون أن يخونه. أما الاستمرار في تمويل العبث باسم الحرية، فلن يؤدي إلا إلى مزيد من فقدان الثقة، ومزيد من التوتر بين الدولة والمجتمع.
في النهاية، يبقى السؤال مفتوحاً: هل نمتلك الشجاعة السياسية لإعادة ضبط العلاقة بين الإعلام والدعم العمومي؟ أم سنواصل الهروب إلى الأمام، تاركين المجال لمنطق السوق ليبتلع وظيفة الإعلام كخدمة عمومية؟ هنا بالضبط يُقاس صدق الخطاب، وتُختبر إرادة الإصلاح.

