حين يتحوّل المطر إلى دليل اتهام: الفيضانات بين المسؤولية التقصيرية وواجب المحاسبة

حين يتحوّل المطر إلى دليل اتهام: الفيضانات بين المسؤولية التقصيرية وواجب المحاسبة

بقلم الدكتور عبد الإله طلوع
لم تعد فواجع الفيضانات في المغرب مجرد كوارث طبيعية تُدرج ضمن خانة “القضاء والقدر”، بل أضحت، في كل مرة، اختبارًا فاضحًا لمدى جدية الدولة في تحمل مسؤولياتها القانونية والأخلاقية تجاه المواطنين.

فالماء لا يقتل وحده، بل يقتل حين يُترك ليجد طريقه في مدن أُهملت، وبنيات تحتية شُيّدت بلا رؤية، ومسؤولين اعتادوا الهروب إلى خطاب التبرير بدل منطق المحاسبة.

في منطق القانون، لا تُقاس الكارثة بحجم الأمطار، بل بمدى استعداد الإدارة لتوقعها والحد من آثارها. وهنا تبرز المسؤولية التقصيرية باعتبارها حجر الزاوية في مساءلة كل من ثبت تقصيره، سواء بالفعل أو بالامتناع، عن اتخاذ التدابير الوقائية الواجبة.
فحين تغرق الأحياء، وتنهار الطرق، وتُحاصر الأرواح داخل منازلها، فإن السؤال الجوهري لا يكون: “كم تساقط من المطر؟” بل: “أين كانت الدولة قبل أن يتساقط؟”.

إن المسؤولية التقصيرية، كما استقر عليها الفقه والقضاء، تقوم على ثلاثة أركان واضحة: الخطأ، والضرر، والعلاقة السببية. وكلها تكاد تتجسد بوضوح في فواجع الفيضانات المتكررة.

فالخطأ يتجلى في غياب التخطيط الحضري الرشيد، وفي إهمال صيانة قنوات الصرف، وفي الترخيص بالبناء في مجاري الأودية. أما الضرر، فهو ما يُحصى بالأرواح والممتلكات، وبالصدمة النفسية والاجتماعية التي تخلفها الكارثة، فيما لا تحتاج العلاقة السببية إلى كثير عناء لإثباتها حين تتكرر المأساة في المواقع ذاتها، وبالسيناريو ذاته.

غير أن أخطر ما في هذه الفواجع ليس الماء، بل ثقافة الإفلات من المحاسبة. إذ غالبًا ما تنتهي الكارثة ببلاغات التعزية، وزيارات بروتوكولية، ووعود بإعادة الإعمار، دون أن يُفتح نقاش جدي حول المسؤوليات الإدارية والسياسية. وهنا يتحول الضحايا من مواطنين لهم حقوق، إلى أرقام في نشرات الأخبار، تُطوى ملفاتهم مع انقشاع الغيوم.

إن ربط الفيضانات بالمحاسبة ليس ترفًا قانونيًا، بل شرطًا لبناء الثقة بين الدولة والمجتمع.

فالدولة التي لا تحاسب مسؤوليها عند التقصير، تفقد تدريجيًا شرعيتها الأخلاقية، مهما راكمت من خطابات التنمية. والمحاسبة هنا لا تعني الانتقام، بل تعني تفعيل آليات الرقابة، وربط المسؤولية بالمحاسبة، وتعويض المتضررين تعويضًا عادلًا، وإعادة النظر في السياسات العمومية المرتبطة بالتعمير والوقاية من المخاطر.

لقد آن الأوان للخروج من منطق “الكارثة المفاجئة” إلى منطق “الخطر المتوقع”، ومن ثقافة الأسف إلى ثقافة المسؤولية.

فالمطر سيظل ينزل، لكن الفاجعة الحقيقية هي أن نستمر في التظاهر بأننا لا نعرف أين يكمن الخلل. وحدها المحاسبة الجدية قادرة على تحويل الفيضانات من قدر أعمى إلى درس قانوني وسياسي لا يُنسى.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *