“حين تفقد النخبة بوصلتها: من قيادة التغيير إلى أزمة المعنى”

في كل مرحلة من مراحل التاريخ، كانت النخبة تُصنع لا فقط في المدارس والجامعات، بل في لحظات القلق الجماعي، في الأزمات الكبرى، حيث يتقد الوعي، ويشتد الطلب على من يملكون البصيرة قبل السلطة، لكن، ماذا يحدث حين تدخل النخبة نفسها في أزمة وجود؟ وحين يتغير المجتمع أسرع من قدرتها على التحليل والتفاعل؟
إن أخطر ما يواجهه مجتمع في طور التحول ليس فقط غياب النخبة، بل فقدانها للبوصلة: بوصلة المعنى، وبوصلة الالتزام، وبوصلة الجرأة الأخلاقية.
فهل ما زال بإمكان من يسمون أنفسهم “نخبة” أن يعيدوا تعريف أدوارهم، أم أن التحولات الجارية أصبحت أعقد من قدراتهم الرمزية؟
لقد كان يُنتظر من النخبة أن تؤطر الغضب، أن تُنضج الوعي، أن تُجسد البدائل. غير أن الواقع يُظهر عكس ذلك: صمت مريب، خطابيات مُكررة، وانكفاء داخل دوائر امتياز مغلقة.
فهل نحن أمام نخبة تخلت عن رسالتها أم أن المجتمع تجاوزها ولم يعد ينتظر منها شيئًا؟
ثم إن الطارئ اليوم ليس فقط في البنية الاجتماعية، بل في أدوات إنتاج المعنى: منابر التأثير تحولت، وخرائط النفوذ تغيّرت، وزمن القنوات العمومية والندوات الثقافية استُبدل بزمن الخوارزميات والبث المباشر.
فكيف لنخبة وُلدت في عالم الورق أن تواكب جيلاً تربى على الإيجاز والسرعة والانفعال؟
هل يمكن للنخبة أن تؤثر دون أن تُحدث قطيعة معرفية مع ذاتها؟ هل تجرؤ على نقد أدواتها وتصوراتها القديمة؟ وهل يمكن الحديث عن “نخبة جديدة” لا تقوم على شرط النسب الثقافي، بل على شرط الكفاءة، والقدرة على إنتاج المعنى في زمن التشويش العام؟
ثم ماذا عن النخبة السياسية، تلك التي كان يُفترض فيها أن تكون عقل الدولة، لا صدى مصالحها؟ هل يكفي أن تحتل المناصب، وتملأ الشاشات، لتقنع الناس أنها تمثلهم؟ أم أن التمثيلية السياسية دخلت مرحلة الانفصال الرمزي عن نبض المجتمع؟
في قلب هذه الأسئلة، يبرز الشباب كفاعل متوتر، يتأرجح بين فقدان الثقة في النخب، والرغبة في تجاوزها.
لكن هل يُمنح الشباب فضاءً حقيقيًا للفعل، أم يُختزل حضوره في الشعارات واللجان والمناسبات؟ وهل يمكن بناء نخبة جديدة دون الاستثمار في الطاقات الشابة فكريًا، وليس فقط انتخابيًا؟
التحولات الجذرية لا تُقاد بالخطابة، بل بفهم عميق للزمن الجديد، وبجرأة على مساءلة الذات، وبقدرة على بناء الجسور بين الماضي وما يليه. وإذا كانت النخبة هي عقل المجتمع، فالعقل لا يمكنه أن يشتغل خارج الزمن.
لذلك، يبقى السؤال الأهم: هل نحن في حاجة إلى نخبة جديدة، أم إلى فكرة جديدة عن النخبة؟