حين تفقد الأحزاب بوصلتها: أزمة الوساطة وإشكال التغيير

تعيش الأحزاب السياسية اليوم مأزقاً مركباً يتجلى في تآكل وظائفها التقليدية وفقدانها لدورها كوسيط بين الدولة والمجتمع.
وتشير المؤشرات الميدانية إلى أن صور التصدع البنيوي والتآكل التنظيمي تعكس أزمة الوساطة، حيث لم تعد الأحزاب قادرة على أداء وظائفها في التأطير السياسي وصناعة البدائل، ما يضعها أمام اختبار مصيري يتعلق بقدرتها على الاستمرار كفاعل حقيقي في الحقل العام.
وتُظهر التحولات الاجتماعية والسياسية المتسارعة أن الأحزاب فقدت جاذبيتها لدى الأجيال الجديدة، إذ انكمشت نسبة الانخراط الحزبي، وتراجعت الثقة الشعبية في قدرتها على تمثيل المطالب الاجتماعية الملحة. وتؤكد تقارير وطنية ودولية أن صورة الأحزاب ارتبطت بالمصالح الضيقة وبالبيروقراطية التنظيمية، أكثر مما ارتبطت بخدمة الصالح العام.
وتُبرز التجربة السياسية المغربية أن وظيفة الوساطة التي كلف بها الدستور الأحزاب تعرضت للاهتزاز، بفعل الفجوة المتزايدة بين خطابها وواقع الفعل السياسي.
وتكشف الانتخابات الأخيرة عن انكماش المشاركة، وعن إحباط شعبي عميق تجاه وعود انتخابية لم تتحول إلى سياسات ملموسة.
وتعكس الأزمة كذلك تراجع الأدوار الفكرية والتنظيرية للأحزاب، حيث انصرفت معظمها إلى منطق التدبير اليومي للسلطة، وأهملت مهام بناء المشروع المجتمعي وصياغة البرامج بعيدة المدى، وأدى هذا الانزياح إلى انحسار الأفق الإصلاحي وتفشي براغماتية انتخابية قصيرة النفس.
وتُعمّق ظاهرة العزوف الانتخابي أزمة الأحزاب، إذ لم يعد الناخب يثق في الوعود، ولا يعتبر الحزب قناة للتغيير بقدر ما يراه امتداداً لبنية مغلقة تعيد إنتاج نفس النخب والوجوه.
وتؤكد الدراسات الميدانية أن الشباب بوجه خاص ابتعد عن العمل الحزبي، مفضلاً فضاءات رقمية بديلة للنقاش والتعبير.
وتُنتج هذه الأزمة سؤالاً محورياً: هل ما تزال الأحزاب قادرة على تجديد نفسها واستعادة دورها التاريخي كجسر يربط بين الدولة والمجتمع؟ أم أنها بصدد الانزياح نحو الهامش، تاركة فراغاً سياسياً قد تملؤه قوى غير مؤسساتية؟
وتفرض التحولات التكنولوجية على الأحزاب أن تعيد النظر في أدواتها، وأن تقتحم المجال الرقمي باعتباره فضاءً رئيسياً للتواصل والتعبئة. ويُعد ضعف الحضور الرقمي للأحزاب المغربية دليلاً على تخلفها عن اللحظة التاريخية التي تصوغ الوعي السياسي الجديد.
وتُلزم لحظة التحول الديمقراطي الراهن الأحزاب بأن تسترجع وظيفتها التأطيرية، وأن تعيد الثقة بينها وبين المجتمع عبر برامج واقعية تقنع المواطن وتستجيب لتطلعاته.
ولا يمكن لهذا التجديد أن يتحقق دون إصلاح داخلي يمس بنياتها التنظيمية وأساليب اتخاذ القرار.
وتُبرز مقارنة بسيطة مع تجارب دولية أن الأحزاب التي استطاعت تجديد نفسها هي التي فتحت المجال أمام الشباب، وراهنت على النخب الجديدة، وأدخلت آليات الديمقراطية الداخلية، بينما ظلت الأحزاب التي أغلقت هياكلها على نفس القيادات أسيرة التهميش والضعف.
وتُحتم أزمة الوساطة على الدولة نفسها أن تُعيد النظر في علاقتها بالأحزاب، بحيث لا يظل الفاعل الحزبي مجرد واجهة شكلية، بل شريكاً في صناعة القرار العمومي وتنفيذ السياسات العمومية.
ويعني ذلك الانتقال من منطق “الإدارة الحزبية” إلى منطق “المسؤولية السياسية”.
وتُوضح هذه المعضلة أن استعادة الثقة رهينة بقدرة الأحزاب على إنتاج خطاب صادق وواقعي، بعيد عن الشعبوية، وعلى ربط القول بالفعل.
ويعني ذلك أن التغيير لا يتحقق بالشعارات وإنما بقدرة الحزب على تقديم بدائل ملموسة في التعليم، والصحة، والتشغيل، والتنمية الترابية.
وتُؤكد التجربة أن غياب التغيير يفرز فراغاً سياسياً خطيراً، يفتح المجال أمام تآكل الشرعية التمثيلية وتهديد الاستقرار الاجتماعي.
لذلك تصبح الأحزاب مطالبة اليوم بأن تعود إلى وظيفتها الأصلية: تمثيل الإرادة الشعبية وحماية التوازنات الديمقراطية.
وتُلزم المرحلة الراهنة الأحزاب أن تعترف بأخطائها التاريخية، وأن تُراجع أدواتها الخطابية والتنظيمية، وأن تُجدد نخبها بما يضمن تواصلاً فعّالاً مع المجتمع، فالوساطة ليست مجرد وظيفة شكلية، بل شرط وجودي لشرعية الحزب نفسه.
وتُغلق هذه الملاحظات على خلاصة أساسية: إن الأحزاب إما أن تنهض بواجبها التاريخي وتُعيد بناء الثقة المجتمعية، أو أن تستسلم لمسار التآكل التدريجي الذي قد يحولها إلى مؤسسات بلا روح، وبين الخيارين يقف مستقبل الديمقراطية على المحك.