حين تتصدر الرداءة المشهد وتتوارى الصحافة الجادة
بقلم : بوشعيب نجار
لم يعد المشهد الإعلامي، في زمن الصحافة الرقمية المتسارعة، مجرد ناقل للخبر أو وسيط للتنوير العمومي، بل تحول في حالات كثيرة إلى مسرح مفتوح للعبث، حيث تختزل السياسة ورجال السلطة في “لقطات عابرة” تصنع بعناية، وتسوق بذكاء، وتقدم للجمهور على أنها قمة التواضع وقرب المسؤول من المواطن.
سياسي أو رجل سلطة يقف على جانب الطريق ينتظر سيارته، أو يحتسي قهوة في مقهى شعبي، لتجد عدسات “البلاحسة” والمتملقين في حالة استنفار: تصوير…تعليق…موسيقى حزينة ، ثم عنوان مثير من قبيل: “فلان يحتسي قهوته وسط المواطنين… شوفو التواضع ديالو”. فيديوهات تستهلك بسرعة، ويتلقفها أصحاب النفوس الضعيفة، دون أن يطرح السؤال الجوهري: ما القيمة الإخبارية؟ وما الثمن الخفي؟
الخطير في الأمر أن جزءا كبيرا من هذا المحتوى ليس بريئا، بل مدفوع الأجر، ينتج في إطار علاقات زبونية مقيتة، حيث تتحول الصحافة إلى خدمة علاقات عامة، وتتحول المهنة النبيلة إلى وسيلة للتقرب، وطلب الرضا، وصناعة صورة وهمية لمسؤول أو منتخب سياسي .
أمام هذا الزحف المتسارع لما يمكن تسميته بـ”جيش التافهين”، يجد المجتمع نفسه مهددا في وعيه، وفي ذائقته، بل وفي أسس حضارته الرمزية. فحين تترك المهنة بدون تنظيم صارم، وبدون محاسبة، تصبح مرتعا لكل من هب ودب: أصحاب سوابق عدلية، أميون، سماسرة، ومنتحلو صفة، يقدمون أنفسهم كصحفيين أمام المؤسسات الأمنية والقضائية، لا دفاعا عن حق في المعلومة، بل سعيا إلى زلفة أو امتياز.
لقد أصبحت “الصحافة” عند هؤلاء مهنة من لا مهنة له، وسلما للابتزاز أحيانا، وللتلميع أحيانا أخرى، وفي الحالتين يكون الضحية هو المواطن، وحقه في معلومة دقيقة، مستقلة، ونزيهة.
إننا اليوم أمام لحظة حاسمة، تفرض دق ناقوس الخطر. فدور النيابة العامة لم يعد ترفا في هذا السياق، بل ضرورة لحماية المجتمع من انتحال الصفة، ومن العبث بثقة المواطنين. كما أن الكرة باتت في مرمى البرلمان، إما أن يبادر إلى تشريعات واضحة وصارمة تُعيد الاعتبار للصحافة الجادة، وتنقي الحقل من الطفيليات، أو أن نرفع جميعا “الصلاة على جنازة الصحافة”.
الصحافة ليست فيديو قهوة، ولا صورة عابرة، ولا تعليقا مدفوعا. الصحافة دور مجتمعي، ومسؤولية أخلاقية، وجسر لتقريب المعلومة للمواطن، خاصة في زمن ثورة الإعلام الرقمي وغياب المراقبة. ومع هذا الانفلات، يحن كثيرون إلى زمن الصحافة الورقية، إلى المقالات السياسية الرصينة، والتحليلات العميقة، التي كان يبدع فيها كتاب وصحفيون كبار، ويقرأ فيها الرأي قبل الصورة، والفكرة قبل “اللايك”.
وكما تساءل أحد الصحفيين في عنوانه المؤلم: “هل حقا أن الصحافة تأكل أبناءها؟”، يبدو أننا اليوم أمام مرحلة لا تأكل فيها الصحافة أبناءها فقط، بل توشك أن تلتهم نفسها بنفسها.
إن إنقاذ ما يمكن إنقاذه لم يعد خيارا بل واجبا جماعيا… قبل أن نصحو يوما على واقع بلا صحافة… وبلا وعي.

