حزب العدالة والتنمية… من التمكين إلى العزلة ثم العودة برأس بنكيران

في العقد الأول من الألفية الثالثة، لم يكن حزب العدالة والتنمية مجرد فاعل سياسي عادي في المشهد المغربي. بل بدا كتيار يُجسد تطلعات شريحة واسعة من المواطنين الباحثين عن الإصلاح، النزاهة، والتغيير ضمن ما يسمح به السياق السياسي. ومنذ دخوله البرلمان، ثم تسلمه رئاسة الحكومة في خضم رياح “الربيع العربي” سنة 2011، ظل هذا الحزب الإسلامي يسير على حبل دقيق: بين الوفاء لقاعدته التي منحته الثقة، والانضباط لحدود السلطة القائمة.
لقد أتت رياح 2011 بما لا يشتهي خصومه، فصعد الحزب بسرعة، واكتسب شرعية شعبية حقيقية، ونجح في أول تجربة حكومية، رغم القيود والتعقيدات. لكن مع مرور الوقت، أصبح جلياً أن الحكم في المغرب لا يُمارس من قمة الحكومة فقط، بل من مراكز متعددة، لها من النفوذ ما لا يخضع للمساءلة الانتخابية. وهكذا، بدأت تنازلات الحزب تتوالى، من أجل البقاء في دائرة القرار.
في هذا السياق، كانت لحظة إعفاء عبد الإله بنكيران سنة 2017 نقطة تحول فارقة. الرجل الذي شكّل ظاهرة سياسية بخطابه المباشر وشعبيته اللافتة، أُبعد بشكل سلس، بعد “بلوكاج” حكومي استمر شهورًا، ليخلفه سعد الدين العثماني بنسخة أكثر قابلية للانضباط وأقل استعدادًا للمواجهة.
مع حكومة العثماني، فقد الحزب بوصلته تدريجيًا. تحوّل إلى مُنفذ لسياسات لا يمتلك زمامها، وتورط في تمرير قوانين أثارت غضب جزء من قاعدته، على رأسها قانون “فرنسة التعليم”، وقانون تقنين القنب الهندي، واتفاقيات التطبيع. بدا الحزب، في لحظة ما، وكأنه تخلّى عن كل ما كان يميزه، مقابل البقاء في الواجهة.
ثم جاءت انتخابات 2021 كصفعة مدوية: من أكثر من مئة مقعد، سقط إلى أقل من 15. لم يكن مجرد تراجع انتخابي، بل انهيار مدوٍّ أربك حتى خصومه. بدا كأن الدولة أوصلت رسالة واضحة مفادها أن دوره في هذه المرحلة قد انتهى، وأن الشعب قال كلمته بعد سنوات من خيبة الأمل.
في السنوات التي تلت الهزيمة، دخل الحزب مرحلة مراجعة عسيرة. ووسط التباين الداخلي بين تياراته، وتراجع حضوره في الشارع، عاد اسم عبد الإله بنكيران ليطفو مجددًا. لم يكن مجرد عودة رمزية، بل محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الحزب. فتمت إعادة انتخابه أمينًا عامًا سنة 2025، في محاولة لبعث روح جديدة في جسم أنهكته الخيبات، وأفرغته السلطة من محتواه.
عودة بنكيران، بقدر ما تُعد محاولة للتماسك التنظيمي، هي أيضًا اعتراف ضمني بأن القيادة السابقة فقدت بوصلة الجماهير. فالرجل، رغم كل الانتقادات، ظل يُجسد بالنسبة لكثيرين داخل الحزب تلك النبرة الشعبية الساخرة، القادرة على مخاطبة الناس بلغة بسيطة، دون تكلف ولا تلوّن.
لكن السؤال المطروح الآن: ماذا بقي من الحزب فعليًا؟ هل يكفي الخطاب لإعادة بناء الثقة، في غياب مشروع سياسي واضح؟ وهل يستطيع الحزب أن يتجاوز تهم التنازل والضعف أمام السلطة، ليُعيد تقديم نفسه كقوة إصلاح حقيقية داخل النسق؟
المعادلة لم تتغير كثيرًا: النظام المغربي منفتح بما يكفي للسماح بالتعددية، لكنه صارم في رسم حدودها. ومن يقترب أكثر مما ينبغي من الخطوط التي لا تُرى، يُقصى أو يُفرّغ أو يُستهلك. والعدالة والتنمية لم يكن استثناءً
قد تُعيد الأيام عبد الإله بنكيران إلى الواجهة، لكن ما لن يعود بسهولة هو ذلك الزخم الشعبي الذي حمل الحزب ذات يوم إلى القمة. لقد تغيّر السياق، وتبدّدت الثقة، ودُفنت الوعود بين دهاليز السلطة وإكراهات الواقع.