حرية النقد بين الدستور والواقع: المغرب في مفترق الأمن والديمقراطية
 
					في زمن التحولات الكبرى، لا يُختبر صمود الدول بقوة أجهزتها الأمنية، بل بقدرتها على الإصغاء لأصوات أبنائها، فحين يُصغي الوطن لمواطنيه، يشتد عوده، وحين يخاف منهم، يبدأ في فقدان معناه. هنا، يصبح النقد ليس ترفًا سياسيًا، بل فعلَ وعيٍ يُعيد للدولة مرآتها الأخلاقية، ويذكّرها بأن الشرعية لا تُبنى على الصمت، بل على المشاركة والمساءلة.
لقد جاء دستور 2011 ليكرّس هذا المبدأ حين نصّ في فصله الخامس والعشرين على أن حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها، مؤكداً في الفصل الثامن والعشرين أن حرية الصحافة مضمونة، ولا يمكن تقييدها بأي شكل من أشكال الرقابة القبلية. 
غير أن النصوص، مهما بلغت من الكمال، تظل عاجزة إذا لم تتحول إلى ممارسة يومية داخل الفضاء العام، فالدستور لا يحيا إلا بقدر ما يُفَعَّل، ولا يُفعّل إلا بقدر ما تُحمى حرية النقد.
الإشكال اليوم ليس في النصوص، بل في تأويلها، فحين يُختزل النقد في خانة التهديد، يتحول القانون إلى أداة ضبط، لا إلى ضمانة للحرية. وحين يُجرَّم الرأي المختلف تحت ذريعة حماية الاستقرار، يتحوّل الاستقرار ذاته إلى ستار يخفي هشاشة العلاقة بين المواطن والدولة، فالديمقراطية التي تخاف من النقد، هي ديمقراطية تخاف من ذاتها.
إنّ الحق في النقد ليس تجاوزًا، بل ممارسةٌ لجوهر المواطنة، لأن الدولة القوية لا تُقاس بمدى قدرتها على إسكات المختلفين، بل بمدى قدرتها على إدارة الاختلاف داخل مؤسساتها. وكل محاولة لربط النقد بالفوضى هي خلطٌ بين منطق الأمن ومنطق الديمقراطية، فالأمن لا يستقيم بكمّ الأفواه، بل بإشراك العقول، والديمقراطية لا تُبنى بالولاء الأعمى، بل بالمشاركة النقدية الواعية.
القضاء، من جهته، يظل الضامن الأسمى للتوازن بين الحرية والمسؤولية، فالفصل 107 من الدستور يؤكد أن السلطة القضائية مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، وهو ما يعني أن حماية الرأي جزء من حماية العدالة ذاتها. إنّ النيابة العامة، في هذا السياق، مطالبة بالتعامل بدقة مع القضايا ذات البعد السياسي والفكري، لأن أي خلط بين الرأي والجريمة يُضعف الثقة في المؤسسات ويقوّض مبدأ المحاكمة العادلة.
ولعلّ الإسراع بإخراج قانون الدفع بعدم الدستورية، كما ينص عليه الدستور، أصبح ضرورة ملحّة، لأنه يمنح المواطن الحق في الطعن في القوانين المخالفة للمبادئ الدستورية أمام المحاكم. وبهذا، يتحول الدستور من وثيقةٍ مرجعية إلى سلطةٍ حية تمارس حضورها داخل الحياة اليومية، فيتحقق التوازن بين النص والواقع، وبين الدولة والمجتمع.
لكن الخطر الحقيقي لا يكمن في النصوص الناقصة، بل في الثقافة التي تُجرّم السؤال وتُقدّس الصمت. حين يتحول الخوف إلى عادة، تفقد الحرية معناها، وتصبح الدولة مشروع هيمنة لا مشروع عقد اجتماعي.
لذلك، فالمطلوب اليوم ليس مزيدًا من الرقابة، بل مزيدًا من الثقة؛ ليس التضييق على النقد، بل احتضانه كقوة اقتراحية تعيد السياسة إلى مسارها الأخلاقي.
إنّ الأمن والحرية ليسا نقيضين، بل شريكين في بناء الدولة الحديثة. فالأمن الذي يُقصي الحرية هشّ، والحرية التي تُقصي الأمن فوضى. بينهما، يكمن جوهر الدولة الديمقراطية: دولةٌ تملك من الشجاعة ما يكفي لتُصغي، ومن الثقة ما يجعلها لا تخاف من النقد، بل تعتبره ميثاقًا جديدًا بينها وبين مواطنيها.
في النهاية، ليس الخطر أن نسمع النقد، بل أن نتوقف عن سماعه. فالوطن لا يُبنى بالسكوت الجماعي، بل بالأسئلة الجريئة التي تحرس ضميره الجمعي.
وحين يُصبح النقد فعل حبّ للوطن، لا خصومة معه، نكون قد تجاوزنا عقدة الخوف، ودخلنا زمن الديمقراطية الناضجة التي تجعل من الحرية قاعدةً لا استثناء، ومن الكلمة الصادقة أقوى سلاح في وجه العنف والفساد والنسيان.


