بين مطرقة الأمل وسندان الخيبة: تأملات في فاتح ماي

أي حكاية يُمكن أن ترويها الجباه المتعرّقة حين يجيء فاتح ماي؟
هل تحكي انتصارها الصغير على القهر، أم تهمس بحسرة السنوات الضائعة، حيث كان الحلم يشيخ قبل أن يولد؟
وهل بقي للعامل وللشغيلة من الفرح ما يستحق الاحتفال، أم أن فاتح ماي صار مجرد استذكار حزين لما لم يتحقق قط؟
منذ عقود، والعرق يسيل.
منذ عقود، والشعارات تعلو.
لكن، كم من تلك الأحلام نجا من التبخر؟
ماذا تحقق من وعود العمل الكريم والعيش اللائق؟
ماذا تحقق من آمال تقليص ساعات العمل، ورفع الأجور، وتأمين الحقوق الأساسية؟
ولماذا، رغم كل ذلك الصخب النقابي والسياسي، ما تزال الشغيلة تتأرجح بين هشاشة العقود الزمنية وقسوة المعيشة اليومية؟
سنوات الضياع تُطوّق الأسئلة:
أين ذهبت سنوات النضال الطويل؟
كيف استطاع الزمن أن يحوّل الاحتجاج إلى طقس موسمي، وينزع من الكدح معناه الثوري؟
لماذا تقبلت الأجساد الشقية أن تتحول إلى وحدات إنتاجية صامتة، لا تسأل إلا عن الحد الأدنى للبقاء؟
أهي لعنة العولمة؟
أم خيانة النخب التي فضّلت الموائد على الميادين؟
أم أن الإنهاك اليومي قد أخمد آخر جذوة للسؤال الجذري؟
حين نتأمل مشهد العامل اليوم، لا بد أن نسأل:
هل العامل مالكٌ لزمنه أم أجيرٌ لدى سوق يبتلع الإنسان كما يبتلع السلعة؟
هل الحلم بالترقي الطبقي صار مجرد أسطورة معلّبة تُباع للأجيال الجديدة؟
وهل بقي للعمل شرفٌ جوهري، أم صار مجرد وسيلة للنجاة البيولوجية؟
لأن فاتح ماي لا ينبغي أن يكون يومًا لتجميل القبح، بل فرصة لمساءلة الذاكرة:
لماذا أصبح العامل خائفًا أكثر مما هو غاضب؟
لماذا استحال الإضراب، رمز الرفض الجماعي، إلى حدث نادر محاصر بالقوانين والتخويف؟
لماذا صار الشغل مرادفًا للإرهاق الوجودي بدل أن يكون مشروع كرامة؟
ولأن القهر لا يُهزم بالشعارات وحدها:
هل نحتاج اليوم إلى ثورة جديدة في مفهوم العمل؟
هل يمكن أن نستعيد المعنى الأصلي للكدح باعتباره فعلاً وجوديًا لا مجرد وسيلة للاستغلال؟
وهل نجرؤ على مساءلة الأسس نفسها التي يقوم عليها تقسيم العمل والسلطة والثروة؟
ربما… كان علينا أن نسأل بصوت أعلى:
أي إنسان نريد أن نكون؟
وأي زمن نريد أن نعيشه؟
لأن المسألة في النهاية ليست تحسين الأجور فقط،
بل استعادة الزمن الشخصي من قبضة النظام الشمولي للسوق.
في فاتح ماي، إذن، لا نحتفل بما تحقق، بل بما لا يجب أن نكف عن المطالبة به:
العدالة التي تأخرت كثيرًا،
والكرامة التي تُسرق كل يوم،
والحلم الذي يواصل النزيف في صمت المياومين والعابرين في سوق الحياة.