الوطنية المغربية… من ارتعاشة الاستقلال إلى بحث الأمة عن ذاتها

الوطنية المغربية… من ارتعاشة الاستقلال إلى بحث الأمة عن ذاتها
بقلم: الدكتور عبد الإله طلوع – باحث في العلوم السياسية وقضايا الشباب

من نحن المغاربة؟ سؤال يبدو بسيطا في ظاهره، لكنه يختزن عمقا تاريخيا وهوياتيا معقدا، فالوطنية المغربية ليست مجرّد انتماء إلى تراب أو علم، بل هي بناء تاريخي متدرج تَشَكّل عبر مسارات المقاومة والتجديد والتأمل في الذات الجماعية.
إنّها هوية تشكّلت من تفاعل الدين مع الثقافة، ومن تمازج العديد من الروافد، ومن تراكم الذاكرة المشتركة التي صاغت وجدان الأمة وأعطتها شخصيتها المتفردة.

لقد انبنت الوطنية المغربية على مقاومة الاستعمار في بعدها الرمزي والميداني، ثم أعادت تشكيل نفسها بعد الاستقلال في معركة بناء الدولة الوطنية الحديثة_ لكنها لم تتوقف هناك، بل واصلت التجدّد كلما استدعت التحولات الكبرى مراجعة الأسس والرموز والمعاني، من هنا يمكن القول إن الوطنية المغربية ليست معطًى جاهزا، بل مشروع متجدد يتفاعل مع الأزمنة والسياقات، ويعيد تعريف ذاته باستمرار.

المسيرة الخضراء كانت لحظة فارقة في هذا المسار، ارتعاشة وطنية ثانية، أو لنقل ولادة جديدة للأمة. لحظة انصهرت فيها الإرادة الشعبية مع القيادة السياسية، وتماهى فيها الفعل الرمزي مع المعنى التاريخي، فاستعاد المغاربة ثقتهم في ذواتهم وفي قدرتهم على الفعل الجماعي المنظم. تلك المسيرة لم تكن مجرد حدث سياسي، بل كانت إعادة تأسيس للعلاقة بين الدولة والمجتمع، بين التاريخ والذاكرة، بين الوطن والمواطن.

غير أن سؤال الوطنية اليوم لم يعد مرتبطًا فقط بالتحرر الترابي أو التماسك الداخلي، بل أصبح مرتبطًا بالتحولات العميقة التي يعيشها العالم والمغرب على السواء: العولمة الرقمية، الفردانية المتصاعدة، هشاشة الانتماء، وتآكل الرموز الجماعية، أمام كل ذلك، تطرح الحاجة إلى وطنية جديدة، وطنية مواطِنة تنبني على قيم المشاركة والمسؤولية والعدالة الاجتماعية، لا على العواطف وحدها.

الوطنية الجديدة التي نحتاجها اليوم ليست تكرارًا لشعارات الماضي، بل إعادة بناء للثقة في الدولة، وللوعي الجمعي بقيمة العيش المشترك_ وطنية تُعيد الاعتبار للمدرسة، للثقافة، وللفضاء العمومي كأماكن لتربية الحس الوطني في بعده المدني والأخلاقي. وطنية لا تكتفي بالتاريخ كذاكرة، بل تجعله طاقة للمستقبل، لأن الأمم التي لا تجدد وطنيتها تفقد قدرتها على البقاء في عالم سريع التحول.

هكذا، تصبح الوطنية المغربية مشروعًا مفتوحًا على المستقبل، لا شعارًا جامدًا_ إنها سيرورة دائمة من البحث عن الذات، عن المعنى، وعن الدور الذي يمكن أن تلعبه الأمة المغربية في زمن تتداخل فيه الحدود بين الانتماء والاغتراب. فهل نملك اليوم الجرأة لابتكار وطنيتنا من جديد؟
ذلك هو التحدي الحقيقي الذي سيحدد ملامح مغرب الغد.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *