الهجوم الدبلوماسي الناعم: المغرب يعيد رسم خرائط النفوذ بتأنٍّ وذكاء

في زمن التحولات الجيوسياسية المتسارعة، ينهض المغرب اليوم بدور فاعل يتجاوز منطق الاصطفاف التقليدي أو التبعية الدبلوماسية، ليرسم ملامح سياسة خارجية جديدة تقوم على “الهجوم الدبلوماسي الناعم”، الذي يجمع بين الواقعية السياسية والهدوء الاستراتيجي، وبين الدفاع الصلب عن القضايا الوطنية والانفتاح المتوازن على المحاور الدولية الناشئة.
لقد استطاعت الرباط، في السنوات الأخيرة، أن تؤسس لنموذج خاص في تدبير علاقاتها الخارجية، يقوم على ثلاثة مرتكزات رئيسية: أولها، الحضور الهادئ والمدروس في مناطق جغرافية كانت لوقت طويل خارج دوائر التأثير التقليدي؛ وثانيها، بناء تحالفات مرنة بعيدة عن الإكراهات الإيديولوجية؛ وثالثها، ربط الدفاع عن الوحدة الترابية للمملكة بمنطق الشراكة والمصالح المشتركة، وليس فقط بمنطق العاطفة الوطنية.
إن ما يُوصف اليوم بـ”الهجوم الدبلوماسي الناعم” لا يتعلق فقط بكثرة التحركات الرسمية أو تعدد الزيارات الثنائية، بل يتصل أكثر بتغير عميق في فلسفة الاشتغال الدبلوماسي ذاته. فالمغرب لم يعد يكتفي بردود الأفعال، بل بات يشتغل وفق تصور استباقي، يحول مساحات الصمت الجيوسياسي إلى فرص للتأثير، ويعيد التموقع بذكاء في توازنات إقليمية معقدة.
ويظهر هذا بجلاء في قضية الصحراء المغربية، حيث نجحت المملكة في استقطاب اعترافات وازنة بدعم مبادرة الحكم الذاتي، من أكثر من 123 دولة، من ضمنها أعضاء دائمون في مجلس الأمن ودول أوروبية ولاتينية وآسيوية وإفريقية، وهو ما لم يكن ليتم لولا تنويع أدوات الاشتغال السياسي، والقدرة على تحويل المقترح المغربي إلى عرض سياسي يجد صدى دولياً، لا فقط كحل عملي للنزاع، بل كخيار يعكس استقرار المملكة ومصداقية مؤسساتها.
وفي السياق ذاته، تكشف زيارة وزير الشؤون الخارجية ناصر بوريطة إلى جمهورية مقدونيا الشمالية عن بعد رمزي كبير لهذا الهجوم الدبلوماسي الناعم، فاختراق الفضاء الجغرافي للبلقان، وتمتين العلاقات مع دول أوروبا الشرقية، لم يكن أولوية تقليدية في السياسة الخارجية المغربية، لكنه اليوم يتحول إلى ورقة استراتيجية تُستثمر لبناء خريطة اعتراف جديدة بمغربية الصحراء، وتوسيع دائرة الدعم في ملفات دولية معقدة.
إن خصوصية الدبلوماسية المغربية الراهنة تكمن في كونها تجمع بين البراغماتية والرؤية بعيدة المدى. وهي دبلوماسية ترفض منطق الاصطفاف الحاد، وتنتصر للتعددية، وتُراكم الشرعية من خلال ممارسات هادئة ولكن فعّالة.
فالمغرب لا يطرح نفسه كقوة صدامية، وإنما كقوة استقرار، تسعى إلى لعب أدوار الوساطة، وتطرح مشاريع تعاون رابح-رابح، وهو ما يفسر الإقبال المتزايد من شركاء جدد على تعزيز علاقاتهم بالمملكة.
ولعل أهم ما يميز هذا “الهجوم الناعم” هو قدرته على الجمع بين الدفاع الصارم عن الثوابت الوطنية، والانفتاح الذكي على المحيطين الإفريقي والمتوسطي، بل وامتداد التأثير المغربي نحو فضاءات جيوسياسية أبعد، كما هو الحال في أمريكا اللاتينية وآسيا الوسطى.
ختاماً، يمكن القول إن الدبلوماسية المغربية المعاصرة لم تعد مجرد جهاز وظيفي تابع للقرار السياسي، بل أصبحت أداة استراتيجية لإنتاج النفوذ، وتحقيق التموقع السيادي في عالم متحول، إنها دبلوماسية تشتغل بصمت، ولكنها تُراكم الاعترافات، وتصوغ الواقع وفق منظور مغربي خالص، حيث الهدوء لا يعني الضعف، والنعومة لا تلغي الحزم.
في هذا العالم الذي يضج بالصراعات، يصرّ المغرب على أن يهاجم… ولكن بلغة السلام.