المغرب حين ينتصر مرتين: من فرحة الميدان إلى وعي المؤسسة

المغرب حين ينتصر مرتين: من فرحة الميدان إلى وعي المؤسسة

الأفراح أيضاً تأتي مجتمعة، كما الأحزان تماماً، هذا الصباح، حديث المغاربة واحد، وصوت الفرح أعلى من كل الضجيج، فمنتخبنا الوطني لأقل من عشرين سنة حقّق إنجازاً غير مسبوق، وعبر إلى نهائي كأس العالم لهذه الفئة بعد فوزه المستحق على فرنسا.
مشهد لا يملّ منه القلب، يذكّرنا أن ما أنجزه الكبار في قطر قبل ثلاث سنوات لم يكن مصادفة، بل ثمرة وعي جديد وثقة جماعية تترسخ في جيل لا يعترف بالدونية ولا بالحدود.

جيل “Z” المغربي لا يكتفي بالمشاركة، بل يصنع الحدث.
في زمن تراجع فيه منسوب الثقة بالمؤسسات والأحزاب، يظهر هؤلاء الفتية ليقولوا لنا إن روح الأمة لا تموت، وإن ما تبقى من الأمل يمكن أن يُعاد بعثه من ملعب، من عَلم مرفوع، ومن نشيد يُرتَّل بدموع العزّة.
أليس غريباً أن يكون الجيل الذي يتهمه البعض بالسطحية واللامبالاة هو من يعلّمنا اليوم معنى الالتزام والانضباط؟ أليس هو من يعيد إلينا تعريف “الوطنية” في زمن الاستهلاك والتشكيك؟

إن هذا الانتصار الكروي ليس حدثاً رياضياً فحسب، بل هو مؤشر رمزي لتحوّل اجتماعي وثقافي أعمق. فجيل الشاشات، الذي نشأ في عالم مفتوح، بدأ يترجم انفتاحه إلى وعي جديد بالذات الجماعية، لا كهوية مغلقة، بل كقوة قادرة على المنافسة والإبداع والتفوّق.
إنه جيل يؤمن أن النجاح لا يحتاج إلى “واسطة” بل إلى انضباط، وأن القيم ليست خطباً، بل سلوكاً يومياً داخل الملعب وخارجه.

لكن الفخر لا يأتي من المستطيل الأخضر فقط، فخلال اليومين الماضيين، عشنا مشهداً مؤسسياً نادراً في الرقي والمسؤولية، أعاد إلينا الثقة بأن هذا الوطن لا يزال قادراً على إنتاج المعنى، وعلى الانتصار للقيم حين تتاح له الفرصة.
حدثٌ سياسي أو مؤسسي – مهما بدا عادياً – يمكن أن يكون لحظة وعي جماعي إذا أُنجز بعقل دولة لا بعقل مصلحة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل يمكن للمؤسسة المغربية أن تتعلّم من الفريق الوطني معنى اللعب النظيف؟

حين نرى شباب المنتخب يلتزمون بتكتيك المدرب، ويتحمّلون مسؤولية الخطأ قبل الفرح بالنجاح، نتساءل: لماذا لا تنتقل هذه الروح إلى الإدارة، إلى الجماعة، إلى البرلمان؟
ما الذي يمنع أن تكون الروح الرياضية قاعدة في تدبير الشأن العام، حيث يُحاسَب الفاعل ويُكافأ المجتهد؟

إن ما نعيشه اليوم، من لحظة فرح جماعي ومن إشارات مؤسسية راقية، يعيدنا إلى سؤال جوهري: هل نحن بصدد ميلاد جيل جديد من الوعي المغربي؟
جيل لا ينتظر الإصلاح من فوق، بل ينجزه من موقعه، في المدرسة أو الجامعة أو المنتخب أو حتى في الفضاء الرقمي.

وإذا كانت كرة القدم قد منحتنا درساً في الانتصار عبر التماسك، فإن المؤسسة منحتنا درساً آخر في إمكانية الإصلاح عبر التوافق والاحترام المتبادل.
كلا المشهدين وجهان لمغرب واحد: مغرب لا يُهزم حين يتوحّد حول فكرة عادلة.

لقد كنا نحتاج إلى هذا الفرح، لكننا نحتاج أكثر إلى أن نحوله إلى مشروع وطني طويل النفس. فالمباريات تُربح بالعزيمة، والدول تُبنى بالثقة.
الكرة أثبتت أن “المغربي ممكن”، والمؤسسة أكدت أن “المغرب قادر”. بين الاثنين خيط من الأمل يجب ألا نتركه ينقطع مجدداً.

فهل نمتلك الشجاعة لنعيد الاعتبار لقيمة “العمل الجماعي” بعد أن شوّهته الفردانية؟ وهل سنحوّل هذا الانتصار الرمزي إلى ثقافة يومية في المدرسة، في الإعلام، في السياسة، في الشارع؟

ما يحدث اليوم ليس صدفة، بل علامة على نضج وطني يتشكّل بصمت. المغرب، حين ينتصر في الميدان وينضج في المؤسسة، لا يحتفل فقط بالنتيجة، بل يكتب فصلاً جديداً من سيرته الحديثة.
ذلك أن الأمم لا تتقدم بالمعجزات، بل بالانسجام بين الفعل والرمز، بين الجهد والضمير، بين من يلعب النزال ومن يدير القاعدة.

وفي لحظة كهذه، حيث الفرح يجتاح البيوت، وحيث كل مغربي يشعر أنه ساهم – ولو بالهتاف – في هذا الإنجاز، لا بد أن نسأل أنفسنا: كيف نحافظ على هذا الشعور؟ كيف نجعل من فرحة الرياضة مشروعاً للمواطنة؟

الجواب ليس بعيداً: بأن نؤمن جميعاً أن “اللعب من أجل الوطن” لا يعني الفوز بالميداليات فقط، بل الانتصار على الفساد، على اللامسؤولية، على ثقافة الأعذار.

فالمغرب الذي يحتفل اليوم بمنتخبه الشاب، ويستعيد الثقة بمؤسساته، هو المغرب الذي نحلم به جميعاً:
مغرب يربح بالجهد لا بالصدفة، بالانضباط لا بالعشوائية، وبالمعنى لا بالضجيج.

هذا هو المغرب الممكن.
وهذا هو الجيل الذي يذكّرنا أن الحلم حين يُزرع في أرض الثقة، يثمر وطناً.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *