المعارضة في المغرب من الاحتجاج إلى التراجع، أين الخلل؟

المعارضة في المغرب من الاحتجاج إلى التراجع، أين الخلل؟
بقلم سعيد حفيظي:

 

في السياسة، لا تكتمل اللعبة الديمقراطية إلا بوجود معارضة قوية، مستقلة، وقادرة على اقتراح البديل. غير أن الحالة المغربية تقدّم لنا نموذجًا خاصًا، حيث ظلت المعارضة، على امتداد العقود، تتأرجح بين شرعية النضال ورهانات الاحتواء، بين الاحتجاج الصاخب والمأسسة الصامتة، وبين الجذرية الرمزية والفعالية المؤسسية.
منذ الاستقلال، لم تكن المعارضة الحزبية في المغرب ترفًا سياسياً أو تجمّعًا لأصوات غاضبة، بل كانت لزمنٍ طويل التعبير الأكثر صدقية عن المطالب الشعبية المُغيّبة، والمرآة العاكسة لأعطاب الحكم. فقد واجهت الأحزاب الوطنية الكبرى، من حزب الاستقلال إلى الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، منظومة سياسية لم تكن تعترف بالمعارضة إلا بوصفها خصمًا وجب تحجيمه، أو ترويضه عند الضرورة. ورغم التضييق، بقي صوت المعارضة صامدًا، في البرلمان كما في الشارع، وفي الصحافة كما في النقابات.
لكن هذه الوظيفة السياسية الحيوية التي كانت تضطلع بها المعارضة، بدأت تتآكل مع الزمن، إما بفعل هندسة سلطوية أتقنت إنتاج “معارضة مدجَّنة”، أو بسبب انزياح المعارضة نفسها نحو منطق المواقع بدل منطق المعارك. فعندما دخلت المعارضة إلى الحكومة سنة 1998 في إطار التناوب التوافقي، اعتقد البعض أن المغرب دخل مرحلة جديدة من “دمقرطة المؤسسات”، غير أن الواقع أثبت أن الانتقال لم يكن انتقالًا سياسيًا بقدر ما كان تغييرًا في الأدوار دون تغيير في القواعد. وهكذا، تحولت المعارضة السابقة إلى حكومة بلا أدوات سيادية، وغابت المعارضة الجديدة عن المشهد.
دستور 2011 جاء، نظريًا، ليُعيد الاعتبار للمعارضة، مانحًا إياها وضعًا دستورياً خاصًا، وصلاحيات معتبرة. لكنه في الواقع جاء أيضًا في لحظة صعود الاحتجاجات الاجتماعية (حركة 20 فبراير) التي أربكت الدولة، فكان الاعتراف بالمعارضة جزءًا من استراتيجية امتصاص الضغط وليس تحوّلًا ديمقراطيًا صادقًا. ولأن النصوص لا تصنع المعارضة، فإن الممارسة ظلت محكومة بمنطق سياسي تقليدي: تحجيم الصوت المخالف، تسقيف سقف النقد، وصناعة توازنات شكلية لا تمس جوهر السلطة.
اليوم، تعيش المعارضة في المغرب واحدة من أضعف لحظاتها التاريخية. فهي لا تقود أي دينامية مجتمعية مؤثرة، ولا تقترح أفقًا سياسيًا مختلفًا، ولا تبلور خطابًا يربك الأغلبية أو يزعج الدولة. والأسوأ من ذلك، أنها لم تعد تحظى بثقة الشارع، ولم تعد قادرة على تأطير الغضب الشعبي الذي بات يعبر عن نفسه خارج الأحزاب، عبر حركات اجتماعية عفوية أو شبكات رقمية تتجاوز قنوات الوساطة التقليدية.
هذا الفراغ المعارض لا يُعزى فقط إلى هيمنة الدولة على المجال السياسي، بل هو نتيجة مباشرة لأزمة بنيوية داخل الأحزاب نفسها، التي لم تعد تنتج نخبًا فكرية، ولا تراكم في المصداقية، ولا تسائل الذات. فحين تفرغ المعارضة من روحها النقدية، وحين يُختزل دورها في تصريحات إعلامية موسمية أو صراعات شكلية داخل البرلمان، فإنها تتحول إلى ديكور ديمقراطي لا أكثر.
في النهاية، الديمقراطية ليست فقط انتخابات وأغلبية، بل هي أيضًا – وربما أساسًا – معارضة تشتغل بالوضوح الأخلاقي، والصرامة السياسية، والارتباط بالشارع. وما لم تستعد المعارضة المغربية وعيها بدورها التاريخي، وتتحرر من منطق التواطؤ والمهادنة، فإن السياسة ستبقى لعبة مغلقة، تُدار من فوق، وتُراقب من بعيد، في ظل شعب يزداد يأسًا من الوساطة، وفئات واسعة باتت تؤمن أن التغيير لا يأتي من الداخل.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *