“المستقلون الإداريون… تجميلٌ للمشهد أم تكريسٌ للفراغ السياسي؟”

سيثير البلاغ الأخير للديوان الملكي حول تبسيط شروط الترشح للانتخابات للشباب دون 35 سنة ضجة في الأوساط السياسية، لا بسبب مضمونه، بل بسبب الرسائل الضمنية التي يحملها، ففي الوقت الذي يروج له على أنه فرصة للشباب المستقل لولوج البرلمان، يُطرح السؤال التالي: هل هذا التحفيز سيعيد الحيوية للعمل السياسي، أم أنه مجرد “تبخير” للمشهد دون معالجة الجذور الحقيقية للتمثيلية؟
أول ما يلفت الانتباه هو التركيز على الشباب المستقل عن الأحزاب. صحيح أن الشباب غير المنتمي يجب أن تتاح له الفرصة، لكن هل معنى هذا أن الدولة تقر بأن الأحزاب السياسية فاشلة في جذب الشباب؟ وهل هذا لا يمثل إشارة ضمنية إلى ضعف النظام الحزبي في المغرب؟
البلاغ يشير إلى تسهيل الترشيح وتقليص الإجراءات القانونية، وهذا في ظاهره أمر إيجابي، لكن هل هذا التسهيل القانوني وحده يكفي ليضمن تمثيلية حقيقية؟ أم أنه مجرد غطاء لتجميل المشهد الانتخابي؟ وهل الشاب المستقل قادر على مواجهة التحديات الميدانية للانتخابات دون دعم تنظيمي حقيقي؟
الأكثر إثارة للجدل هو تصريح تغطية 75% من مصاريف الحملات الانتخابية للشباب المستقل، هذه المبادرة قد تبدو سخية، لكنها تطرح سؤالًا هامًا: هل السياسة أصبحت لعبة مالية أكثر منها ميدانًا للعمل الوطني؟ وهل هذا الدعم المالي يعوض فعلاً عن غياب التنظيم الحزبي الذي يوفّر التدريب والخبرة والبرنامج السياسي؟
من زاوية أخرى، يبدو أن الدولة تريد توسيع دائرة النخب السياسية الجديدة خارج الأحزاب التقليدية، وكأن السياسة اليوم تُختزل في المناصب الفردية والشخصيات المستقلة. لكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل يمكن للاصلاح السياسي أن يتم خارج المؤسسات الحزبية التي تشكل الإطار المنظم للممارسة الديمقراطية؟ أم أن هذا التحفيز يعزز الفراغ السياسي ويخلق طبقة من “المستقلين الإداريين” بلا رؤية سياسية متماسكة؟
أنا شخصيًا أرى أن هذا التوجه فيه مخاطرة كبيرة، لأنه يربك المشهد الحزبي ويضع الشباب في مواجهة صعبة بين الانضمام إلى أحزاب غير محفزة أو الدخول في سباق المستقلين. لماذا لم تُطرح إصلاحات حقيقية للأحزاب، تجعلها أكثر انفتاحًا على الشباب؟ لماذا لم يُدرس فرض حصص للشباب داخل المجالس الحزبية، أو تسهيل ولوجهم عبر برامج تدريبية ودعم تنظيمي، بدل الرهان على المبادرات الفردية؟
من المؤكد أن الشباب يحتاج إلى دعم، لكن دعمهم لا يجب أن يكون على حساب المؤسسات الحزبية التي تظل الإطار الشرعي والفعلي لتنمية الفكر السياسي والممارسة الديمقراطية. هل كنا بحاجة إلى هذا “التمويل الجزئي” والابتهاج بالاستقلالية الفردية، أم كان الأجدى تطوير الأحزاب نفسها؟
كما أن طرح المستقلين على أنهم الحل الأمثل لإصلاح السياسة يحمل خطرًا كبيرًا: إنه يرسخ فكرة أن الأحزاب عقبة أمام المشاركة، وهذا بعيد عن الواقع. الأحزاب، رغم محدودياتها، تظل المنبر الذي ينشئ برامج سياسية متكاملة، ويشكل قيادات مسؤولة، ويضمن استمرارية الرؤية الوطنية.
لذلك، يجب أن نسأل: هل الدولة أرادت فعلاً تمكين الشباب، أم أنها اختصرت الحل في “تبخير سياسي” يخلق صورة وهمية؟ هل هناك آليات حقيقية لتطوير الأحزاب وتحفيزها على احتضان الشباب، أم اكتفينا بإطلاق معونة مالية وتسوية قانونية بسيطة للمستقلين؟
الإصلاح السياسي لا يمكن أن يكون مؤقتًا أو شكليًا.
الشباب بحاجة إلى مؤسسات حزبية قوية، لتمارس السياسة بشكل مستدام، لا مجرد مقاعد تُمنح بالسهولة القانونية والمالية. هل طرحنا هذه المسألة في النقاش العمومي بشكل كافٍ؟ هل تم التفكير في تدريب الشباب على السياسات العمومية، على التخطيط، على العمل الجماعي، على تقديم البرامج المتكاملة؟
في النهاية، أعتقد أن تبسيط شروط الترشح للشباب المستقل هو خطوة سطحية، لا تعالج الجذور العميقة لأزمة المشاركة السياسية.
الحل الحقيقي يكمن في إعادة النظر في القانون الحزبي، في فتح الأحزاب أمام الشباب، في فرض حصص، في دعم التنظيمات الحزبية، وفي بناء برامج حقيقية للتأهيل السياسي.
المستقلون الإداريون قد يضيفون حيوية مؤقتة، لكن بدون إصلاح الأحزاب، سيظل المشهد الانتخابي هشًا، والممارسة الديمقراطية ضعيفة، والفراغ السياسي قائمًا. هل كنا بحاجة إلى “تبخير المشهد” لتجميل صورة الانتخابات، أم إلى إصلاح حقيقي يجعل الشباب فاعلًا مؤثرًا داخل المؤسسات؟
إن الحديث عن المستقلين يجب أن يكون مكملًا للإصلاح الحزبي، وليس بديلاً عنه. السياسة ليست مجرد حسابات فردية أو دعم مالي محدود، بل هي بناء مؤسساتي طويل، يضمن استمرارية التمثيلية، ويؤسس لثقافة ديمقراطية متجذرة، لا يمكن اختزالها في مفاهيم قصيرة المدى.